Home > Islamabad Islamicus > Volume 1 Issue 2 of Islamabad Islamicus
Article Info
Authors
Volume
1
Issue
2
Year
2018
ARI Id
1682060033219_673
Pages
101-120
PDF URL
https://jamiaislamabad.edu.pk/uploads/jamia/articles/Article6.pdf
Subjects
من أهمِّ مقاصد كتاب الله عزَّ وجلَّ هو كلٌّ من جمع القلوب وضمُّ الصفوف ورسوخ عناصر الحبِّ والألفة والعدل والرحمة والتكافل والترابط في المجتمع والأسرة، إثباتًا للأساس العام ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[1]، وإنشاء مجتمعٍ قويٍّ مترابطٍ، لا خوف فيه على الضعفاء عامةً ولا على اليتامى خاصةً، على ضياع حقوقهم، وسلب أموالهم أو أكلها بالباطل.
ويبحث هذا المقال في مدى اهتمام القرآن الكريم البالغ باليتامى في جميع مجالات حياتهم، وكيفية تربيتهم القرآن ليجعلهم عناصر القوة للأسرة والمجتمع، ويحرص على إيراد سائر الآيات القرآنية بشأنهم، مع تبيين المراد منها، لكي يتَّضح لرجلٍ مُنصفٍ أن القرآن هو الكتاب الذي سبق جميع المطالبين بالعدل والإنصاف لليتامى، بل منحهم بأحكامه الشاملة ما عجز عنه أيُّ تشريعٍ عداه، علمًا بأن الآيات القرآنية تعرضت في اثنتين وعشرين آية، ذُكِرت فيها كلمة "يتيم" بالإفراد 8 مرات، وبالتثنية مرة واحدة، وبالجمع 14 مرة، ومَن يتدبَّر هذه الآيات، يجدها مقسَّمة إلى أقسام ثلاثة، فالقسم الأول يتعرَّض إلى بيان الإحسان إليه والوصية به في شريعتنا والشرائع السابقة، والقسم الثاني يبيِّن حقوقه الاجتماعية، وأما القسم الثالث يقوم ببيان حقوقه المالية.
لذا يدرس هذا المقال كل جوانب حياة اليتامي في ضوء الأسلوب القرآني بالتفصيل فيتمُّ تقسيمه إلى تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة:
أما التمهيد فيتناول التعريف باليتيم بالإيجاز، ويبين المبحث الأول الإحسان إلى اليتيم، والوصية به في شريعتنا والشرائع السابقة، ويتعرض المبحث الثاني بحقوقه الاجتماعية، وكما يعتني المبحث الثالث ببيان حقوقه المالية وتأتي الخاتمة بأهم التوصيات والمقترحات.
التعريف باليتيم
الف۔اليتيم في اللغة: هو الجزء من الشيئ، واليتيم من الناس مَن فقَدَ أباه، ومن البهائم مَن فقَد أمَّه؛ وذلك لأن الكفالة في الإنسان منوطة بالأب، فكان فاقد الأب يتيمًا دون مَن فقد أمه، وعلى العكس في البهائم، فإن الكفالة منوطة بالأم؛ لذلك كان من فقد أمه يتيمًا.[2]
ب- اليتيم في الفقه: هو مَن فقد أباه ما لم يبلغ الحُلُم، فإذا بلغ الحُلُم زال عنه اليُتم؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ((لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلام))[3]، وأحيانًا يتمُّ إطلاق لفظ اليتيم عليه بعد بلوغه، مع أنه إطلاق مجازي، وليس إطلاقًا حقيقيًّا، وذلك باعتبار ماضيه، كما كان يطلق اسم اليتيم على نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، مع أنه كبير: يتيم أبي طالب؛ لتربية إيَّاه بعد موت أبيه، وهكذا في الآية الكريمة-: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾[4]، لأنهم عادةً لا يُؤْتَوْن أموالهم إلا بعد بلوغهم، أي بعد زوال صفة اليُتم عنهم.
ج۔اليتيم في القرآن: قد تعرَّضت الآيات في القرآن الكريم له في اثنتين وعشرين آية[5]، وردت فيها كلمة "يتيم" بالإفراد 8 مرَّات، وبالتثنية مرةً واحدة، وبالجمع 14 مرةً، ووفقًا للتدبر والتعمق في كلِّ هذه الآيات الكريمة، نقسِّمها إلى ثلاثة مباحث كالتالي:
الف۔الأول: نتعرَّض فيه إلى بيان الإحسان إلي اليتيم، والوصية به في شريعتنا والشرائع السابقة.
بــ- القسم الثاني: نتعرض فيه إلى بيان حقوق اليتيم الاجتماعية.
جــ- القسم الثالث: نتناول فيه بيان حقوق اليتيم المالية.
المبحث الأول: الإحسان إلى اليتيم والوصية به في شريعتنا وفي الشرائع السابقة
اليتيم مع أنه فقد كفالة أبيه وتربيته، وفقد حنانه وعواطفه؛لم يفقد الرحمة الإلهية، حيث إحاطته بالتشريعات التي تعتني به وتوصي بالإحسان إليه؛ حسب الآيات القرآنية التالية:
-1قال تعالى:﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾[6].
-2وقال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾[7].
-3وقال تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾[8].
-4وقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾[9].
-5ورعاية اليتيم والمحافظة عليه لا تقتصر على الشريعة الخاتمة؛ بل كانت في الشرائع السابقة لشرعنا، فمن جملة مواد الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل: الإحسانُ إلى اليتامى حسب قوله تعالى:
قال تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾[10].
-6وفي مشهد آخر من المشاهد التي نرى فيها رعاية اليتيم واضحة عبر الشرائع السابقة، نجد القرآن الكريم يتعرض لقصة موسى والخضر عليهما السلام حيث وجدا في سفرهما:
﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾[11]، وأصلحه الخضر بدون أجر يأخذه على ذلك العمل، ويكشف القرآن سبب ذلك الإكرام في قول الخضر لموسى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾[12].
وهكذا كان صلاح الآباء سببًا في حفظ حقوق الذرية، ورعاية ما أودع لهما من كنز مالي، أو علمي، على اختلافٍ في التفسير في بيان نوعية الكنز[13].[1]
المبحث الثاني: اهتمام القرآن باليتيم من الناحية الاجتماعية
شرع له في هذا المجال ما يحقق رعايته كفرد فَقَدَ كفيلَه، فأوصى له بمن يبادله العطف والحنان، والتربية الصالحة؛ ليكون فردًا صالحًا، لا تؤثر على نفسيته حياةُ اليتم، ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافًا يسقطه عن المستوى الذي يتحلَّى به بقية الأفراد، ممن يتنعم بحنان الأبوة وعطفها.
-1ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نشأ يتيمًا، بيَّن الله سبحانه وتعالى له بأنه قد أنعم عليه، وكفله، وأغناه؛ فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾[14]. وهذه الآيات الكريمة يُستنبط منها ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية، فهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لا بد للأولياء والمجتمع من اجتيازها؛ للوصول بهذا اليتيم إلى الهدف المنشود.
فيستفاد من الآيات أن اليتيم يحتاج إلى:
الف۔المسكن الذي يأوي إليه.
بــ- التربية الصالحة، بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم؛ حتى لا يقع فريسة للضلال.
جـــ- والمال الذي يُنفق عليه منه.
-2فعلى المجتمع الذي يريد أن ينشأ اليتيمُ فيه نشأةً سليمة؛ ليصبح إنسانًا صالحًا سويًّا، تستفيد منه أمَّتُه، أن يوفر له المسكن الآمن، والمال الذي يحتاجه، مع التربية الصالحة، ويمكن ذلك بإنشاء مؤسسات وملاجئ دور لليتامى تُعنى بكل ذلك.
وقد جاءت آيات القرآن الكريم لتراعي اليتيم من الناحية النفسية والاجتماعية؛ لينشأ نشأة سويَّة، فأمرتْ بإكرامه والرفق به، ونهتْ عن قهره وزجره وإهانته.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾[15]، وهذه الآية الكريمة خطاب للأمة في شخص النبي صلى الله عليه وسل، وهو القائد؛ لتقتدي به؛ إذ الخطاب للقائد خطاب للرعية، وحاشاه أن يقهر يتيمًا، أو يعبس في وجهه.
-3وهو الذي قال فيه ربُّه سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[16].
-4وقد ذم الله سبحانه وتعالى أولئك الذين يهينون اليتيم ولا يكرمونه؛ بل يزجرونه ويدفعونه عن حقِّه، وجعل ذلك من صفات غير المؤمنين المكذِّبين بيوم الدين؛ حتى لا يتشبَّه بهم المؤمنون؛
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾[17]. و:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾[18].
ويُفهم من هذا أنه لا بد من إكرام اليتيم، وهذا الإكرام يشمل كلَّ صور حفظ اليتيم من ناحية حقوقه الاجتماعية، سواء فيها الإيواء، والإنفاق، والتربية.
فمن إكرامه عدم تركه بلا تربية وتعليم، ومن إكرامه تهذيبه كما يهذِّب الشخص أولاده، فليس المراد بإكرامه إذًا هو الإنفاق عليه فقط؛ بل المقصود كل ما يحقق إكرامه.
وبمراعاة تعاليم القرآن هذه، يجد اليتيم اليد الرقيقة التي تحنو عليه، وتمسح على رأسه؛ لتزيل عنه غبار اليتم، وتضفي عليه هالة من العطف والحنان.
المبحث الثالث: اهتمام القرآن باليتيم من الناحية المالية
قد عُنيت الآيات في القرآن الكريم عناية عظيمة بالحقوق المالية لليتامى؛ حتى لا يكونوا عرضة للضياع ولسلب أموالهم، وشرعت لهم موارد كثيرة يأخذون منها المال، منها ما:
-1في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ﴾[19].
وقوله سبحانه وتعالى:﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾[20].
-2وفرَضَ لهم الله سبحانه وتعالى في قرآنه نصيبًا من الخُمُس[21]، مما يحصل عليه المسلمون من الغنائم التي غنموها من قتال الكفار؛ قال الله سبحانه وتعالى:﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[22].
-3وفرَضَ لهم نصيبًا من الفَيْء، وهو كل مالٍ أُخِذ من الكفار من غير قتال، فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[23].
-4وجعل لهم أيضًا نصيبًا غير محدد جبرًا لخاطرهم إذا حضروا قسمة الميراث، ولم يكن لهم نصيب من هذا الميراث؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾[24]، سواء كان هذا النصيب على سبيل الوصية لهم من الميت فيما لا يزيد على ثلث التركة، أو كان من الورثة؛ إحسانًا منهم لهؤلاء اليتامى وغيرهم ممن ذُكِر في الآية.
-5وهذا كله بالإضافة إلى ما يستحقه اليتامى من الزكوات إن كانوا فقراء أو مساكين؛ إذ يدخلون في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[25].
هذا، ومشكلة اليتامى الأثرياء ليستْ بأقل من مشكلة اليتامى الفقراء؛ إذ هناك بعض يتامى مَن يكون لهم من الأموال ما ليس للكبار، وقد يعرض هذه الأموالَ لجشع الكبار؛ لذا شرع لهم الله سبحانه وتعالى في قرآنه ما يحمي هذه الأموال، ويحافظ عليها من جشع الجشعين، كما أولاهم الاهتمام بتوجيه النفوس إليهم في بقية المراحل الحيوية والتربوية.
مراحل معالجة مشكلة اليتامى الأثرياء
وقد بدا ذلك واضحًا من الآيات العديدة التي أولت العناية بهذه الجهة، فأصرَّتْ على تقدير مال اليتيم، وعدم تضييعه إلا بما فيه مصلحةٌ تعود إليه؛ لذا نرى هذه الآيات التي تخصَّصتْ لمعالجة مشكلة اليتامى الأثرياء، تتمشى مع اليتيم في مراحل ثلاثة كالتالي:
المرحلة الأولى: المحافظة على أموال اليتامى
-1قد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾[26]، بهذا الصدد.
فقد تعرضت الآية الكريمة إلى ترك عملية التغيير في أموال الأيتام، حيث كان ذلك رائجًا فيهم، فقد ذكر المفسرون[27]، أن بعض الأوصياء كانوا يسلبون الجيد من مال اليتيم، ويغيرونه بالرديء؛ لذا وردت الآية الكريمة لتمنع عن هذه التجاوزات غير الشرعية بتغيير أموال هؤلاء الضعفاء، ومنعت كذلك عما هو أعظم من التغيير، ألا وهو التجاوز في أصل مال اليتيم، فيضمه إلى ماله ويتصرف في أكثره، ويحدث هذا المسكين في مشاكل هذه الحياة القاسية، وقد جمع بهذا التجاوز على اليتيم مشكلةَ الفقر، إضافة إلى مشكلة يتمه.
-2لذلك وقف القرآن مهددًا هؤلاء الأولياءَ الأوصياء المتجاوزين مغبة هذا الجشع، وموضِّحًا عِظمَ هذا الذنب الكبير؛ فقال الله سبحانه وتعالى:﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾[28].
-3ثم يصوِّر مشهد النار، وهى تتأجج في بطون هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا؛ فيقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾[29].
ولهذا؛ بعد أن هذه الأية نزلت مباشرة، تبادر كلُّ مَن كان عنده مالٌ ليتيم، فترك طعامه وشرابه، واجتنب أمورهم؛ نظرًا لما في هذا التهديد من عقاب صارم ينتظر آكل مال اليتيم، ولا شك أن هذا يؤثر نفسيًّا بالسلب على اليتيم؛ لشعوره بالعزلة.
-4روى أبو داود[30] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لما أَنزَلَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[31]، و﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا...﴾[32]، انطلَقَ مَن كان عنده يتيمٌ، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه، فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾[33]، فخلطوا طعامهم بطعامه، وشرابهم بشرابه".
-5إذًا؛ قد جاءت الآية الكريمة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[34]؛ لتقلل عنهم هذه الغلظة، وتصحِّح لهم المفهومَ الخاطئ الذي تصوَّروه، فتسهل عليهم مخالطتهم؛ فالعبرة بما فيه الإصلاح والخير لليتيم، وإذا كانت المصلحة في مخالطتهم والتعايش معهم، فهم إخوانكم، ولا شك في أن المخالطة الحسنة تؤكِّد المحبة العارية.
والإصلاح في الآية مطلق وعام، لا يقتصر على جهة معينة؛ بل يحيط بسائر أشكال الإصلاح لأموالهم باستثمارها وتنميتها، وفي الزمن نفسه يشتمل على إصلاح اليتيم في بقية جوانبه، ولو كانت غير اقتصادية، كالتربية والتهذيب؛ إذ إن الآية الكريمة تريد أن يكون اليتيم في عين الأخر مثل الابن أو مثل الأخ الصغير، حيث يحتضنه الأخ الأكبر، ويأخذه باهتمامه، فهو يقوم باهتمامه من الجوانب الاقتصادية والخلقية، ويخالطه ويعاشره، لا حرصًا منه في أموال الأخ الصغير؛ بل لرعايته وتوجيهه، بحسن النية والإخلاص، ممزوجين بعطف أخوي؛﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾[35].
ولم تقتصر الآيات الكريمة في مكان التحذير على المنع عن التجاوز، ونهب مال اليتيم، والوعيد بعذاب الآخرة؛ بل مشت نحوًا آخرَ مستوحًى من الواقع الحياتي الذي يسكن فيه الفرد في كل يوم، إن هذا النحو الجديد يتمثل في تنبيه المتجاوزين بأنهم لو ظلموا اليتامى، وتجاوزوا في حقوقهم، فليحذروا أن يكون جزاؤهم نفس ما فعلوه باليتيم، والجزاء من جنس الفعل، فتربصوا يومًا يُعامَل فيه يتاماهم بنفس النحو الذي أساؤوا به إلى يتامى الآخرين؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
المرحلة الثانية: حقوق الأولياء والأوصياء
-1 لم تقف الشريعة في أثناء مرحلة ولاية الولي على اليتيم، في وجه الولي؛ لتنهاه من أخذ شيء من المال جزاء أتعابه ورعايته في هذا الفترة؛ بل أجازت له بذلك، إلا أنها فرضته بما يقتضيه الوقت لمراعاة حال اليتيم، الذي يكون في معظم الأحوال أشدَّ الحاجة إلى ما يدَّخر له من مال؛ تقول الآية الكريمة: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[36].
فالآية الكريمة أوضحت عن الأولياء بأنهم قسمان:
الأول: وليٌّ غنيٌّ ذومالٍ، له من المال ما يمنعه عن أخذ شيء من أموال اليتامى، وقد خاطبت الآية هذا القسم من الأولياء بقول الله سبحانه وتعالى:﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾، والاستعفاف في اللغة هو: الإمساك عن الشيء والامتناع عنه، فهي إذن تخاطب الأغنياء بترك أموال اليتامى وعدم أكلها، لا قليلًا، ولا كثيرًا، فالغني قد منحه الله من المال ما منعه عن التطلع إلى أموال هؤلاء الضعفاء، فمِن الأحسن للرجل الولي الغني أن يحصل على رضا الربِّ سبحانه وتعالى فيما يقدِّمه من رعاية ورعاية، وله بذلك أكبر الأجر[37]، وقد يكون هو في الأيام القادمة محتاجًا لمثل هذا الاهتمام من الآخرين، لو جاء أجله، وترك بعده يتامى كهؤلاء الذين أخذ هو كفالتهم ورعايتهم؛ ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾[38].
الثاني: وليٌّ مسكين فقير، قد يمنع حاله المالي أن يشتغل بإدارة الأحوال المالية لليتيم؛ لذا نجده يتمشى إلى تناول شيء من المال؛ لقاءَ ما يقدِّمه له من كفاية ومحافظة، وهذا قد خاطبته الآية الكريمة لرعاية حاله بقوله سبحانه وتعالى:﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهو كناية عن تناوله من مال اليتيم مقدار الحاجة والكفاية على بعض التفاسير مع تقييد كون هذا التناول على نحو القرض الحسن، حيث يفرض رده إذا تمكن بعد ذلك ماليًّا، أو التناول على مقدار ما به جوعه، لكن لا على نوعية القرض؛ بل على نوعية تملك المتناول لقاءَ فعله ومحافظته، كما جاء في بعض التفاسير الأخرى، والتعدي عن المقدار اللازم في التناول من مال اليتيم هو أكلٌ لذلك المال ظلمًا، وهو مهدَّد بنص الآية الكريمة:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾[39].
هل المحافظة على مال اليتيم يعني عدم تثميره ونمائه؟
رعاية اليتيم لا تقتصر على حفظ ماله وإيداعه، إلى أن يصل إلى حد البلوغ ليسلم إليه؛ بل ينبغي تثميره وتنميته؛ رعايةً لحق اليتيم، فالأدلة الواردة في رعاية اليتامى والإحسان إليهم ثبت فيها أنه إذا كان الترك للتصرف بأموالهم فيه ضرر، يحَرُم ذلك؛ لأنه إفساد لها، وهذا ما لا تحبُّه الشريعة الإسلامية؛ لذا يُستحسن تثمير مال اليتيم وتنميته، عن طريق التجارة، أو الزراعة، أو أي تصرف يصل إليه الفائدة والنماء، وهذا من التصرف الحسن الذي أقرَّه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾[40]، وهو أيضًا من الإصلاح المذكور في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾[41].
فلابد إذًا من رعاية الأصلح له، إن لم يكن ذلك سببًا لإدخال الضرر على مَن يتصدَّى للتصرف بمال اليتيم.
المرحلة الثالثة: تسليم أموال اليتامى
كي يتسلم اليتامى أموالهم؛ يجب شرطان أساسيان، وهما:
-1 البلوغ: وهو كناية عن وصول اليتيم إلى مرحلة النضوج الجسمي، والذي هو تعبير عن قدرته على ممارسة العملية الجنسية[42].
-2 الرشد: وهو ضد السفه، والرشد هو صلاح العقل ونضوجه، وقيل: الصلاح في العقل والدين، والمقصود هنا: حسن التصرف في المال، ووضعه في مواضعه، وعدم التبذير به.
ويلزم الارتباط بين هذين الشرطين، فلا يكفي أحدهما دون الآخر، وذلك مستفاد من قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[43].
وأرى أنه ينبغي على ولي اليتيم أن يربِّيَه ويدربه تدريجيًّا على حسن استخدام المال وعدم الإسراف، حتى إذا بلغ كان أهلًا لتحمل أعباء هذا المال، وحسن التصرف فيه.
ونالت اليتيمة في القرآن رعاية خاصة غير ما سبق:
فقد كفل الإسلام للمرأة عمومًا جميعَ حقوقها المالية والاجتماعية، وجعلها تتصرف في مالها بكامل الحرية والاختيار، والشريعة قد أولتْ يتامى النساء عناية أكثر، فكما عالجتْ مشكلةَ اليتامى الصغيرات من الناحيتين المادية والاجتماعية شأنها في ذلك شأن اليتامى الذكور، عالجت أيضًا مشكلة اليتيمات إذا بلغن سن الزواج، فقد جاءت آيتان مرتبطتان من حيث الغايةُ والهدف لمعالجة هذه المشكلة:
-1الآية الأولى: هي قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾[44].
ومعنى الآية: إن خشيتم أيها الأولياء! على النساء اليتامى ألَّا تعدلوا فيهن إذا تزوجتم بهن، بأن تسيئوا إليهن في العشرة، أو بأن تمتنعوا عن إعطائهن الصداق المناسب لهن فانكحوا غيرهن من النساء الحلائل اللائي تميل إليهن نفوسُكم، ولا تظلموا هؤلاء اليتامى بنكاحهن دون أن تعطوهن حقوقهن؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد وسَّع عليكم في نكاح غيرهن.
وقد روى البخاري[45]، ومسلم[46]، وغيرهما، عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية، فقالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حِجْر وليِّها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليُّها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره.
وفي الآية قولٌ آخر عند المفسرين: وهو أنَّ الآية مسوقةٌ للنهي عن نكاح ما فوق الأربع؛ خوفًا على أموال اليتامى أن يأخذها أولياؤهم؛ لينفقوها على نسائهم، وذلك أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوج العَشر من النساء، والأكثر والأقل، فإذا صار مُعدمًا، مَالَ على مالِ اليتيمة التي في حجره فأنفقه، أو تزوج به، فنُهُوا عن ذلك[47].
-2 أما الآية الثانية، فهي قوله تعالى :﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾[48].
لقد ندَّدت هذه الآية الكريمة بأولئك الذين لم يلتفتوا إلى التشريع الإسلامي الكافل لحقوق المرأة المالية؛ بل أصرُّوا على التجاوز على ميراثها؛ فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾. والمراد بما كُتب لهن: ما فُرض لهن من ميراث، وصداق، وغير ذلك من حقوق شرعها الله تعالى لهن.
ومضافًا إلى جريمة التجاوز على الحقوق المالية من عدم إعطائهن ما كتب لهن، فإنهم كانوا يرغبون في الزواج منهن؛ لأجل ذلك المال، وطمعًا فيه.
أما إذا حفظ الولي أو الوصي لليتيمة ميراثها وحقوقها، وتزوجها؛ رغبةً فيها، لا طمعًا في مالها، فإن هذا العمل منه خير؛ ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا﴾، وقد روى البخاري[49] عن عائشة رضي الله عنها في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ إلى قوله: ﴿ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾، أنها قالت: "هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليُّها ووارثها، فأشركتْه في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوِّجها رجلًا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضُلها، فنزلت هذه الآية".
وفي الآية معنى آخر، إذ قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ يحتمل معنى: "ترغبون في أن تنكحوهن"، ويحتمل معنى: "ترغبون عن أن تنكحوهن"؛ لأن الفعل "رَغِبَ" يتعدَّى بحرف "في" للشيء المحبوب، وبحرف "عن" للشيء غير المحبوب.
وقد روى البخاري[50]، وغيره عن عائشة في قول الله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ قالت: "رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط؛ من أجل رغبتهم عنهن، إذا كن قليلات المال والجمال".
قال ابن كثير[51]: والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة، يحل له تزوجها، فتارةً يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يمهرها؛ أسوة بمثالها من النساء، فإن لم يفعل، فليعدل إلى غيرها من النساء؛ فقد وسَّع الله عليه، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة، وتارةً لا يكون له فيها رغبة؛ لدمامتها عنده، أو في نفس الأمر، فنهاه الله سبحانه وتعالى أن يعضلها عن الأزواج؛ خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها.
من ذلك يتضح أن اليتيمة كغيرها من النساء لها الحرية الكاملة في اختيار مَن تشاء مِن الأزواج، ولا تُمنع مهرها أو شيئًا منه كسائر النساء، إلا إذا كان ذلك عن رغبتها وإرادتها، ولا يجوز للولي أو غيره إكراهُها على شيءٍ من ذلك، ومن مجموع ما جاء في تفسير هاتين الآيتين يتضح لنا أن القرآن الكريم حرص على تكريم المرأة اليتيمة، وتحدَّى المتجاوزين على حقوقها، سواءً المالية أو الاجتماعية.
نتائج المقال:
بعد هذه الجولة السريعة مع تربية اليتيم في ضوء الأسلوب القرآني، نحن توصَّلنا إلى النتائج التالية:
-1من أهم مقاصد نزول القرآن الكريم هو جمع القلوب وضمُّ الصفوف ورسوخ عناصر الحبِّ والألفة والعدل والرحمة والتكافل والترابط في المجتمع والأسرة، وإنشاء مجتمعٍ قويٍّ مترابطٍ، لا خوف فيه على الضعفاء عامةً ولا على اليتامى خاصةً، على ضياع حقوقهم، وسلب أموالهم أو أكلها بالباطل.
-2القرآن هو الكتاب الذي سبق جميع المطالبين بالعدل والإنصاف لليتامى، بل منحهم بأحكامه الشاملة ما عجز عنه أيُّ تشريعٍ عداه.
-3قد تعرَّضت الآيات في القرآن الكريم له في 22 آية، ووفقًا للتدبر في كلِّ هذه الآيات الكريمة، قسمت إلى الإحسان إلي اليتيم، والوصية به في شريعتنا والشرائع السابق، وكل من حقوق اليتيم الاجتماعية والمالية.
-4اليتيم مع أنه فقد كفالة أبيه وتربيته، وفقد حنانه وعواطفه؛لم يفقد الرحمة الإلهية، حيث إحاطته بالتشريعات التي تعتني به وتوصي بالإحسان إليه في ضوء الآيات المتعددة، وكما رعاية اليتيم والمحافظة عليه لا تقتصر على الشريعة الخاتمة؛ بل كانت في الشرائع السابقة لشرعنا.
-5شرع له في هذا المجال ما يحقق رعايته كفرد فَقَدَ كفيلَه، فأوصى له بمن يبادله العطف والحنان، والتربية الصالحة؛ ليكون فردًا صالحًا، وقد جاءت آيات القرآن الكريم لتراعي اليتيم من الناحية النفسية والاجتماعية؛ لينشأ نشأة سويَّة، فأمرتْ بإكرامه والرفق به، ونهتْ عن قهره وزجره وإهانته.
-6ويُفهم من معظم الآيات القرآنية بأنه لا بد من إكرام اليتيم، وهذا الإكرام يشمل كلَّ صور حفظ اليتيم من ناحية حقوقه الاجتماعية، سواء فيها الإيواء، والإنفاق، والتربية.
-7وبمراعاة تعاليم القرآن، يجد اليتيم اليد الرقيقة التي تحنو عليه، وتمسح على رأسه؛ لتزيل عنه غبار اليتم، وتضفي عليه هالة من العطف والحنان.
-8قد عُنيت الآيات في القرآن الكريم عناية عظيمة بالحقوق المالية لليتامى؛ حتى لا يكونوا عرضة للضياع ولسلب أموالهم، وشرعت لهم موارد كثيرة يأخذون منها المال.
-9وقد بدا ذلك واضحًا من الآيات العديدة التي أولت العناية بهذه الجهة، فأصرَّتْ على تقدير مال اليتيم، وعدم تضييعه إلا بما فيه مصلحةٌ تعود إليه؛ لذا نرى هذه الآيات التي تخصَّصتْ لمعالجة مشكلة اليتامى الأثرياء، تتمشى مع اليتيم في مراحل ثلاثة مثل المحافظة على أموال اليتامى وحقوق الأولياء والأوصياء وتسليم أموال اليتامى بعد البلوغ والرشد.
-10فقد كفل الإسلام للمرأة عمومًا جميعَ حقوقها المالية والاجتماعية، وجعلها تتصرف في مالها بكامل الحرية والاختيار، والشريعة قد أولتْ يتامى النساء عناية أكثر، فكما عالجتْ مشكلةَ اليتامى الصغيرات من الناحيتين المادية والاجتماعية شأنها في ذلك شأن اليتامى الذكور، عالجت أيضًا مشكلة اليتيمات إذا بلغن سن الزواج.
حوالہ جات
- ↑ سورة الحجرات10:39
- ↑ انظر: مادة "يتم" في كتب اللغة وفي كتب التفاسير
- ↑ السجستانی،سلیمان بن اشعث ،ابو داؤد،السنن(مكتبه رحمانيه ،لاہور،2010ء)، حديث:2873
- ↑ سورة النساء:2 2
- ↑ وهي كما يلي: سورة البقرة، أرقام الآيات: 83، 177، 215، 230، وسورة النساء: أرقام الآيات: 2، 3، 6، 8، 10، 36، 137، وسورة الأنعام، ورقم الآية 153، وسورة الأنفال، ورقم الآية: 41، وسورة الإسراء، ورقم الآية: 17، وسورة الكهف، ورقم الآية: 82، وسورة الحشر، ورقم الآية :7، وسورة الإنسان، ورقم الآية: 8، وسورة الفجر، ورقم الآية: 17، وسورة البلد، ورقم الآية: 15، وسورة الضحى، والآيتين: 6، 9، وسورة الماعون، ورقم الآية: 2
- ↑ سورة النساء:4 36
- ↑ سورة الإنسان:768
- ↑ سورة البلد:9014-15
- ↑ سورة البقرة:2 220
- ↑ سورة البقرة:2 83
- ↑ سورة الكهف:1877
- ↑ سورة الكهف82:18
- ↑ القرطبي, تفسير القرطبي(المكتبة التوفيقية بمصر)،34/11
- ↑ سورة الضحى:93 6-8
- ↑ سورة الضحى:93 9
- ↑ سورة القلم:684
- ↑ سورة الماعون:1071- 3
- ↑ سورة الفجر:8917
- ↑ سورة البقرة:2177
- ↑ سورة البقرة :2215
- ↑ الخمس: حق مالي فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده في الغنيمة التي يغنمها المسلمون من قتال الكفار، فكلَّفهم بإخراج سهم واحد من كل خمسة أسهم، نصيبًا للمذكورين في الآية، والأسهم الأربعة الباقية توزع على المجاهدين.
- ↑ سورة الأنفال:841
- ↑ سورة الحشر:597
- ↑ سورة النساء:48
- ↑ سورة التوبة:960
- ↑ سورة النساء:42
- ↑ الطبري, تفسير الطبري (مؤسسة الرسالة،بیروت)،525/7
- ↑ سورة النساء:460
- ↑ سورة النساء :410
- ↑ السجستانی،سلیمان بن اشعث ،ابو داؤد،السنن ,حديث: 2871، وحسَّنه الألباني
- ↑ سورة الأنعام:6152
- ↑ سورة النساء:410
- ↑ سورة البقرة:2220
- ↑ سورة البقرة :2220
- ↑ سورة البقرة :2220
- ↑ سورة النساء:46
- ↑ البخاري،محمد بن اسماعیل ،الجامع الصحيح (مكتبه رحمانيه ،لاہور،2010ء )،حديث: 5659
- ↑ سورة النساء:4 9
- ↑ سورة النساء :410
- ↑ سورة الأنعام:6152، وسورة الإسراء:1734
- ↑ سورة البقرة:2 220
- ↑ علامات البلوغ عند الفقهاء خمس: ثلاث يشترك فيها الذكور والإناث مثل الإنبات للشعر الخشن على العانة والسن أن يبلغ 15 عامًا، والاحتلام، وإثنان تختص بالإناث، فهما: الحيض والحمل.
- ↑ سورة النساء:46
- ↑ سورة النساء :43
- ↑ البخاری، الجامع الصحیح، حديث: 2362
- ↑ القشیری،مسلم بن حجاج،الجامع الصحیح(مكتبه رحمانيه ،لاہور،2010ء )، حديث: 3018
- ↑ الطبری،تفسير الطبري534/7
- ↑ سورة النساء:4 127
- ↑ البخاری ،الجامع الصحیح، حديث: 4324
- ↑ البخاری ، الجامع الصحیح ،حديث: 2362
- ↑ ابن کثیر،تفسيرالقرآن العظیم(مكتبة مصر، القاهرة، مصر)، 561/1
Issue Details
Article Title | Authors | Vol Info | Year |
Article Title | Authors | Vol Info | Year |
Similar Articles
Loading...
Similar Article Headings
Loading...
Similar Books
Loading...
Similar Chapters
Loading...
Similar Thesis
Loading...
Similar News
Loading...