2
6
2022
1682060055167_2333
https://drive.google.com/file/d/1kKWw6rg9M1ToVaMOW7qVnyYTGJUn6R0J/view?usp=sharing
Usury legal ruling Ijtihad comprehensiveness implementation.
الاجتهاد في بعض أحكام الربا فهـماً وتنـزيلاً
Al-ijtihad in some rulings of usury: Comprehensiveness and implementation
محمد القاسمي: طالب باحث دكتوراه، كلية الآداب، جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، المغرب
Abstract:
The researcher aims to find the scientists interpretations in comprehensiveness of some verses and Hadiths of usury, identify the legal rulings in some financial exchanges, and to invest the applied Ijtihad and objectivies of Chari'ah; in order to assign the legal rulings with the real causes of some new financial exchanges. The researcher concluded that comprehensiveness in Curan and Hadith texts is a necessary process before the deduction of the legal ruling. He also found that engaging in some new financial exchanges of usury, leads to moral, social and economic to the individual and society.
Keywords : Usury, legal ruling, Ijtihad, comprehensiveness, implementation.
الإطار المنهجي للدراسة: مقدمة:
جعل الله عز وجل المال عصب الحياة في شقها المادي، وجبل الإنسان على حبه، قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)] الفجر: 20[، به قوام معيش الإنسان من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، فحث الشرع على طلبه والجد في تحصيله، قال تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّه) ]المزمل: 20[، وقال أيضا: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ]الجمعة: [10، وقال أيضا: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) ]البقرة: 198[.
من الآيات الثلاث السابقة نلاحظ أن الله عز وجل قرن بين طلب الرزق والكسب وبين ثلاث من شعائر الدين الأساسية، وهي الصلاة والحج والجهاد. وفي ذلك دلالة على أن الإسلام حث على الكسب الطيب ورتب الأجر والثواب على مكتسبه عن طريق الحلال.
والإشكال الذي يطرحه موضوع البحث هو أن النظر في واقع المعاملات المالية المعاصرة يكشف أن أغلب الناس لا يتحرّون الحلال أو الحرام في كسبهم اليومي إما جهلا أو عنادا، بل إن الأمر يزداد إهمالا في التحري والأخذ بالأحوط في الوقائع التي تدخل دائرة المتشابهات، فنجد العديد من الأفراد والجماعات لا يتريثون ولو قليلا للسؤال والتأكد من بعض التصرفات المالية التي لا تخلو منها حياة الإنسان على الدوام؛ ليعرفوا حكم الشرع فيها. ويزداد الأمر تعقيدا عند الحديث عن معاملات مالية مستحدثة لا نص صريح بحكمها. مما يحتم الاجتهاد في فهم وتنزيل الأحكام الشرعية المناسبة لها.
ومن بين الأهداف التي يسعى إليها البحث: تلمس اجتهادات العلماء في فهم بعض آيات وأحاديث الربا، الوقوف على الأحكام الشرعية التي تقررها النصوص الدينية، واستثمار بعض آليات الاجتهاد التنزيلي للأحكام والمقاصد الشرعية للنظر في بعض المعاملات المالية المستجدة.
وللتعاطي مع الإشكال المطروح، يعتمد الباحث الوصف والتحليل مقسما الموضوع على النحو المنهجي التالي:
-
المبحث الأول: الاجتهاد في فهم بعض أحكام الربا، ويشتمل على تعريف الربا، أنواع الربا في اصطلاح الشرع وأسباب تحريم الربا.
-
المبحث الثاني: الاجتهاد في تنزيل بعض أحكام الربا، ويتضمن قاعدتي سد الذرائع والاستحسان اعتبارا للمآل، وتنزيل الحكم الشرعي على معاملتي "دَارْتْ" والتسويق الهرمي.
خاتمة، نتائج وتوصيات
المبحث الأول: الاجتهاد في فهم بعض أحكام الربا
تدور تعريفات العلماء للاجتهاد حول نهاية الوسع واستفراغ الجهد لتحصيل الظن أو العلم بالحكم الشرعي، ويسبق هذه المرحلة فهم عميق للنص الشرعي من حيث الوقوف على المعاني والمقاصد وروح التشريع. ومن خلال هذا المبحث الأول، سيقف الباحث على تعريف الربا في اللغة والشرع، ويعرض لأنواع الربا في الاصطلاح الشرعي، ويجلي بعض أسباب تحريم الربا.
المطلب الأول: تعريف الربا لغة وشرعا
يتطرق الباحث في هذا المطلب إلى تعريف مفردة الربا في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي من خلال أقوال العلماء وبناء على الأدلة الشرعية، إذ أن الملاحظ هو عدول بعض الناس عن النصوص الدينية والارتكان إلى اجتهادات شخصية عارية عن الدليل ومصادمة لمقررات الدين الإسلامي في الأموال:
-
الربا في اللغة
الربا في اللغة اسم على وزن فِعَلٍ بكسر الفاء وفتح العين، علَّهم خففوه من الرِّبَاءِ بالمد، فصيروه اسم مصدر لفعل ربا الشيء يَرْبُو رَبْوًا، بسكون الباء على القياس كما في "الصحاح"، وبضم الراء والتاء كعُلُو، ورِبَاءٌ بكسر الراء وبالمد مثل الرِّمَاءِ إذا زاد، قال تعالى: (فلا يَرْبُو عند الله) ]الروم: 39[ ... ولكونه من ذوات الواو ثُنِّيَ عَلَى رَبَوَانِ وكُتبَ بالألف(1). ورَبَا الجُرْحُ والأرضُ والمالُ وكلُّ شيء يَرْبو ربواً، إذا زاد... ورَبا المالُ يَرْبو في الرِّبا، أي: يزداد: مُرْبٍ. والرِّبا في كتاب الله عز وجل: حرام(2).
وفي "مقاييس اللغة" الرَّاءُ وَالْبَاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ وَكَذَلِكَ الْمَهْمُوزُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ وَالْعُلُوُّ... يُقَالُ أَرْبَتِ الْحِنْطَةُ: زَكَتْ، وَهِيَ تُرْبِي. وَالرِّبْوَةُ بِمَعْنَى الرَّبْوَةِ أَيْضًا. وَيُقَالُ رَبَّيْتُهُ وَتَرَبَّيْتُهُ، إِذَا غَذَوْتُهُ. وَهَذَا مِمَّا يَكُونُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّهُ إِذَا رُبِّيَ نَمَا وَزَكَا وَزَادَ. وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِنْ رَبَّيْتُهُ مِنَ التَّرْبِيبِ (1).
ومما تقدم نعلم أن أصل استعمال مادة "ربو" في اللغة هو الزيادة والنماء والعلو والتربيب.
-
الربا في الشرع
جاء في " التعريفات " للجرجاني أن الربا في الشرع: هو فضل خالٍ عن عوض شرط لأحد العاقدين(2)، وهو فضل أحد المتجانسين على الآخر من مال بلا عوض.
وأورد صاحب " كشاف اصطلاحات العلوم والفنون" المعاني المشتركة للربا، وذكر جملة من التعريفات، قال: "وهو مشترك بين معان: الأوّل كلّ بيع فاسد، والثاني: عقد فيه فضل والقبض فيه مفيد للمِلك الفاسد، والثالث: فضل شرعيّ خال عن عوض شرط لأحد المتعاقدين في عقد المعاوضة"(3).
وأشار القرطبي في تفسيره إلى أن أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخيره ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة"(4). والربا يقع على وجهين: أحدهما: السَّلف بزيادة على ما يعطيه المسلف، والثاني: السلف بدون زيادة إلى أجل، يعني فإذا لم يوف المُستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتفقان عليها عند حلول كل أجل(5).
ومن أقوال أهل العلم السابقة نخلص إلى أن الربا الشرعي هو كل عقد يتضمن شرطا بزيادة فضل خال عن عوض، يشترطه أحد المتعاقدين عند مبادلة عوضين، إما بسبب التأجيل أو التفاضل. وقيل كل البيوع الفاسدة ربا.
المطلب الثاني: أنواع الربا في اصطلاح الشرع
ذهب جمهور العلماء إلى أن الربا منقول في عُرف الشرع إلى معنى جديد كما دلت عليه أحاديث كثيرة.(1) والذي حمل الجمهور على اعتبار لفظ الربا مستعملا في معنى جديد أحاديث وردت عن النبي "صلى الله عليه وسلم" من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام.
أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع:
-
ربا الجاهلية:
وهو زيادة على الدين لأجل التأخير،(2) وهو ربا الجاهلية المعروف، حيث أن المدين يقضي عند حلول الأجل، فإن لم يستطيع لذلك طولا فإن الدائن يربي، ولو تكرر الأمر مرات عديدة، مما يجعل المدين معسرا على الدوام، وهو مناقض لصريح الآية: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة: 280[، "ولا شك في حرمة هذا سواء كانت الزيادة في القدر أو الصفة"(3)."وذهب البعض إلى أن ربا الجاهلية خاص بالزيادة على الدين المستحق مقابل تأجيله، ولا يشمل ما إذا كانت الزيادة في العقد الأول"(4).
-
ربا الفضل:
وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت(5). وقيل هو الزيادة في أحد البدلين الربويين المتفقين جنسا. وذهب جمهور العلماء إلى تحريم ربا الفضل في الأصناف الست الآتية: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فلا يجوز بيع جنس منها بجنسه متفاضلا حالا أو مؤجلا(6).
-
ربا النسيئة:
وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخرا(1)، وقيل تأخير بيع كل شيئين ليس أحدهما ثمنا، علة ربا الفضل فيها واحدة وفضل الحلول على الأجل مطلقا. وفرّق الشافعية بين ربا النسيئة وربا اليد؛ حيث ذهبوا إلى أن ربا النسيئة هو "حالة تأخير استحقاق القبض، أي حالة البيع الذي يشترط فيه الأجل ولو كان قصيرا، وأما ربا اليد فهو في حالة تأخير القبض؛ أي حالة البيع الحال المنجز مع تأخير القبض(2). بأن يفارق أحدهما مجلس العقد قبل التقابض(3). وهذا النوع داخل في تعريف ربا النسيئة عند جمهور العلماء. وزاد المالكية نوعا رابعا؛ وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيل على الربا، وترجمه في المدونة ببيوع الآجال، ودليل مالك فيه حديث العالية. ومن العلماء من زعم أن لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد، وإليه مال ابن العربي(4).
من أقوال أهل العلم السابقة نعلم أن لفظ الربا من ألفاظ العموم الواردة في القرآن، وقد حمل بيان الرسول "صلى الله عليه وسلم" في الأحاديث التي أوردناها وأحاديث أخرى؛ العلماء على القول بأن لفظ الربا نُقل من معناه الشرعي-ربا الجاهلية -إلى معاني جديدة مُستقاة من بيانه عليه السلام، وهو ما جعلهم يقسمونه الأقسام التي ذكرناها. ونرجح أن كل بيع فاسد مآله التحريم، سواء تضمن إحدى معاني الربا أو معنى آخر خالف مقاصد الشريعة، وحجتنا فيما ذهبنا إليه حديث عائشة في صحيح البخاري.
المطلب الرابع: أسباب تحريم الربا
اجتهد العلماء في تحقيق مناطات الأحكام المتعلقة بالربا، وتتبعوا المعاني والأوصاف المقصودة للشرع في تحريم هذه المعاملة المالية. وفي هذا المطلب يعرض الباحث لمجمل الدواعي والأسباب في تحريمها:
إن الحديث عن الأسباب التي من أجلها حرّم الله عز وجل الربا في المعاملات بين الناس، هو في عمقه بحث في العلل والأوصاف والمعاني التي علّق الشارع ورتّب عليها الأحكام الشرعية في أفعال وتصرفات المكلفين. وعموما فإن أفعال وتصرفات المكلفين المالية كلما جاءت مخالفة للمقررات والمقاصد وروح التشريع، من حفظ الأموال وتداولها ورواجها وثباتها والعدل فيها؛ إلا ودخلت حيز النهي والتحريم.
والأسباب التي تداولها العلماء والتي ناقضت مناقضة صريحة أو خفية مقاصد الشريعة كان مآلها التحريم، وهي أسباب تَمَسُّ مختلف مناحي الحياة؛ سواء ما تعلق منها بالجانب الروحي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. وأشار "أبو الأعلى المودودي" في كتابه "الربا" إلى بعض الأضرار الناتجة عن تعاطي الناس للربا في معاملاتهم المالية، ومن بينها ما سنذكره ونعلق عليه:
-
من الناحية الأخلاقية والروحية:
إن المتعامل بالربا يلغي أي معنى من معاني التعاون والتضامن التي حث عليها الإسلام، وإنما يستغل حاجة أخيه الإنسان ليكسب المال الحرام، وبذلك تنعدم أسمى القيم الأخلاقية التي جاء ديننا ليثبتها كأساس للتعامل بين الناس، إذجعل "الأخلاق والروح هما جوهر الحياة الإنسانية... إذا نظرت في الشؤون المالية القائمة على الزكاة والصدقات، وجدت العمل الذهني كله... لا يحصل إلا مُنطبعا بصفات الكرم والسخاء والإيثار والمواساة والمناصحة وسعة القلب ورحابة الصدر.
-
من الناحية المدنية والاجتماعية:
المجتمع الذي تكثر فيه المعاملات الربوية يسود بين أفراده التنافر والصراع، ويصبح هدف الفرد تحقيق أكبر قدر من الأموال وتكديس الثروة، مما يدفع المرابين إلى استغلال الفقراء، فتنشأ علاقات الكراهية والحقد بين هؤلاء المتعاملين. و"المجتمع الذي يقوم على التناصح والتعاون والتكافل ويتعامل أعضاؤه فيما بينهم بالكرم والسخاء، لا بد أن تنشأ بين أعضائه وتنمو بينهم عواطف التحاب والتناصر، وتبقى أجزاؤه متكافلة متساندة"(1).
من الناحية الاقتصادية:
ينجم عن التعاطي للربا تكديس رؤوس أموال ضخمة بيد فئة قليلة من الناس، وهذا يؤدي إلى إبطال بعض مقاصد الإسلام في المال، وعلى رأسها دوران الأموال بين أكبر قدر من الناس، جلبا للمنفعة المالية وتحقيقا للمصالح. "وفي القروض لا يزال رأس المال مذخرا مرتكزا في موضع واحد دون أن يتقلب في شأن نافع مثمر، لا لشيء إلا لأن الرأسماليين ينتظرون ارتفاع سعر الربا في السوق... والطمع في السعر المرتفع؛ شيء يجعل الرأسمالي يُمسك ماله عن جريانه على تجارة البلاد وصناعتها وتجارتها"(1).
إن تعامل أصحاب رؤوس الأموال بالربا سواء مع الأفراد ذوي الحاجة، أو مع الصناع والتجار والمزارعين وحتى مع الحكومات، يرتب أضرارا بليغة تصيب العلاقات الاجتماعية بالمشاحنة والتباغض وغياب التكافل والتآزر، والعلاقات الاقتصادية باستغلال الأغنياء للفقراء والبحث عن الاغتناء على حسابهم، كما تصبح الحكومات تابعة في أنظمتها للبلدان المسيطرة على رؤوس الأموال عبر العالم، مما يُكرس التبعية لها.
لهذه الأسباب السالفة الذكر حرّم الإسلام التعامل بالربا، لما فيه من استغلال فاقة ذوي الحاجة، وتكديس للأموال في أيد فئة قليلة مما يمنع رواجها ودورانها وبالتالي عدم الانتفاع بها عند أكبر عدد من أفراد المجتمع. وعلى النقيض من ذلك حث الشارع المسلمين على الزكاة والصدقات لما فيه من تعزيز روابط التضامن والتكافل ونشر الألفة والمحبة بين الناس، بما يعود بالخير على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.
المبحث الثاني: الاجتهاد في تنزيل بعض أحكام الربا
لا يخفى أن صلاح حال المكلفين لا يتم إلا بشمول ذلك جميع أحوالهم، وقد أشار العلماء إلى أن المقاصد في الخلق لا تخرج عن الكليات الخمس المعروفة، وهي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ العِرض وحفظ المال. هذه المقاصد الكبرى لها أدوات ووسائل ومسببات تفضي إلى المقصود الشرعي منها، إذ أن الأحكام الشرعية ليست مقصودة لذاتها بإطلاق، بقدر ما أن المقصود من امتثالها هو الثمرة التي تؤول إليها، وهي إصلاح حال المكلف في معاشه ومعاده.
وإذا تقرر هذا، جاز لنا القول إن للمقاصد طرقا ووسائلَ وأدواتٍ تُفضي إلى تحصيلها وتحقيقها، والشارع اعتبر مآلات أفعال المكلفين في جميع تصرفاتهم مقصودة، إما عن طريق سد الذرائع أو فتحها، وإما ترخيص ا في العمل بالحيل أو المنع منها، وإما استحسانا لبعض الأفعال والتصرفات اعتبارا للضرورة أو لصلاح مآلاتها.
ومعلوم أن المال عنصر أساسي في الحياة، ومن دونه لا يستطيع الإنسان أن يُعمر هذه الأرض أو يؤدي وظيفته المنوطة به، فالمال أحد كليات الشريعة الخمس ولا ينقص من قيمته أنه آخرها. ثم إن المعاملات المالية في العصر الحديث تعقدت وتشعبت واختلط فيها الحرام بالحلال، فكان لا بد من معرفة القواعد التي تميز الخبيث من الطيب، والحلال من الحرام.
وبعدما تطرق الباحث في المحور الأول إلى فهم العلماء لجملة من الآيات القرآنية، واستنباط أحكام المعاملات المالية منها؛ خصوصا ما يتعلق بالربا. سيعمل في المحور الثاني على تنزيل (تطبيق) بعض هذه الأحكام على بعض الفتاوى، من خلال استدعاء آليات التنزيل: (سد الذرائع، والاستحسان) في أصل اعتبار مآلات الأفعال، ثم ينظر في مدى موافقة بعض المعاملات المالية الراهنة لمقاصد الشريعة، كالمعاملة التي يُطلق عليها المغاربة اسم "دَارْتْ"، ومعاملة أخرى ما فتئ المغاربة ينخرطون فيها وغيرهم دون بحث في شرعيتها، وهي "شبكة التسويق الهرمي":
المطلب الأول: قاعدة سد الذرائع في أصل اعتبار المآل
تعتبر قاعدة سد الذرائع أصلا من أصول اعتبار مآلات أفعال المكلفين التي يعتد المجتهد بمقتضياتها عند بناء الحكم الشرعي في النوازل ما لم يرد بشأنها حكم شرعي صريح. ويتطرق الباحث إلى تعريف هذا الأصل في اللغة وفي الاصطلاح الفقهي، ثم يعرض لأثر إعمال هذا الأصل في اعتبار المآل انطلاقا من نازلة في بيع العِينة؛ كآلية من آليات تنزيل الحكم الشرعي على تصرفات المكلفين المالية:
-
تعريف سد الذرائع لغة وفي اصطلاح الفقهاء:
السد في اللغة هو الحائل والحاجز، قال تعالى:( عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ]الكهف: 94[، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ]يس: 90[.
والذريعة لغة: الوسيلة، وتذرع فلان بذريعة أي توسل، والجمع ذرائع... وهي السبب إلى الشيء(1). يقال: فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووُصلتي الذي أتسبب به إليك. والذريعة: الوسيلة المُفضية إلى الشيء. وتذرعت الإبل الماء، أي خاضته بأذرعها. وقد تذرعتُ به إليه، أي توسلتُ(2).
ممّا سبق يظهر أن الذريعة في اللغة هي الوسيلة والسبب إلى الشيء.
أما في اصطلاح الفقهاء "فالذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع"(1). وقال "ابن تيمية": "الذريعة ما كانت وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ـ ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مَفسدة ـ ولهذا قيل: الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح، وهو وسيلة إلى فعل المحرم(2).
إذن الذريعة في عرف الفقهاء هي فعل مباح يتوسل به إلى فعل الحرام. ويعمل المجتهد على سدها متى نظر إلى المآل المحرم الذي ستفضي إليه. ومثاله أن يفتي أحدهم تحريم زراعة العنب إذا حفت قرائن بالنازلة تُرجح نية المزارع في إعداد العنب ثم توجيهه لصناعة الخمور.
-
أثر سد الذرائع في اعتبار المآل:
ورد في "النوازل الكبرى" للوازاني تحت عنوان: (فصل في ذكر مسائل تقع بين أرباب الديون وهي مؤدية إلى ما لا يجوز شرعا)، نص النازلة الآتية:
قال الشيخ "الوزاني" رحمه الله: "اِعلم أنه إذا باع الرجل من غيره سلعة ثم اشتراها منه بأقل مما باعها به أولا، فإن كانت البيعتان مؤجلتين، اتهم على ذلك سائر الناس. قال ابن عرفة: اتفاقا، ولو لم يكن أحد من المتبايعين من أهل العِينة(3). وإن كانت الأولى مؤجلة، فقال اللخمي وابن بشير وابن عرفة وغيرهم: حكمها حكم ما إذا كانت الأولى نقدا والثانية لأجل، فذكر اللخمي والمازري قولين. قال ابن بشير وابن الحاجب: المشهور منهما أنه لا يُتهم إلا أهل العِينة، وإن كانتا معا نقدا حُمل أمرهما على الجواز، ولا يتهمان في شيء من ذلك باتفاق، إلا أن يكون من أهل العِينة فيُتهمان باتفاق، فإن كان أحدُهما من أهل العِينة، فقال أصبَغ: ذلك بمنزلة ما إذا كانا من أهل العِينة، لأن الآخر يعامله عليها(4).
بالوقوف على نص النازلة في الجزء السادس من "النوازل الكبرى"، يلاحظ الباحث:
أولا: أن الشيخ الوزاني أجاب دون أن يَظهر أن أحدا طرح السؤال، وهنا نتساءل هل نوازل الوزاني افتراضية؟ أم أجاب عنها بناء على أسئلة طُرحت عليه؟ وتوجيه ذلك أنه من بين تعريفات الفتوى في الاصطلاح: "تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه". خصوصا وأن جوابه عَرف تفصيلا من حيث إذا كان المتعاقدان أو أحدهُما من أهل العِينة، أم لم يكون، ولأن التوفيق والسداد في الجواب على الفتوى يكون بمعرفة حال المستفتي وتحقيق المناط فيه، ليتنزل الحكم الشرعي متناسبا مع خصوصيته.
ثانيا: جاء جواب "الوزاني" من داخل المذهب المالكي، وهذا لا ضير فيه، إلا أنه استعاض عن إيراد الأدلة الشرعية بما ذكره من أقوال علماء المالكية فقط.
ومهما يكن، وكما سبقت الإشارة إليه، فالشيخ "الوازاني" فصّل الجواب فيما "إذا باع رجل من غيره سلعة ثم اشتراها منه بأقل مما باعها منه أولَا" لنتحصل منه على ثلاث حالات، هي:
-
إذا كانت البيعتان مؤجلتين، أي أن العقد الأول والثاني لا يُدفع فيه الثمن حالا ولا نقدا، هنا يُتهم سائر الناس، سواء كانا مشهورين أو أحدهما بالتعامل بالعِينة أم لا، وقد حكى اتفاق علماء المذهب في ذلك.
-
إذا كان العقد الأول مؤجلا والثاني نقدا أو العكس، فيُتهم أهل العِينة على الخصوص، وقد أجاب هنا الشيخ بالمشهور في المذهب.
-
إذا كان العقدان نقدا، يُحمل أمرهما على الجواز بالاتفاق، ما لم يكن أحدهما من أهل العِينة فيتهم الاثنان.
هذه هي الحالات الثلاث التي وردت في الجواب على النازلة في بيع العِينة، كما وردت في أحد أهم كتب النوازل في المذهب المالكي.
بعد عرض النازلة والتعليق عليها يتجه الباحث إلى استجلاء معاني سد الذرائع اعتبارا للمآل، كما سينظُر في مدى الربط بين الحالات المرصودة في الجواب، واعتبار حال المتعاقدين (المكلف) سدا للذرائع، كأحد مقومات النظر في النوازل والقضايا التي يعالجها المفتي. وبالرجوع إلى نص النازلة يجد الباحث أن الشيخ "الوزاني" كرّر عبارة "من أهل العِينة" خمس مرات، وهذا دليل على اعتباره حال المتعاقدين، فمتى تبث أن أحدهما اشتهر بين الناس بالتعامل بهذا النوع من العقود بطل العقد؛ سدا لذريعة القصد الفاسد إلى الممنوع شرعا. والنازلة تتضمن عقدين أولهما دَيْن، وهو جائز، لكن عندما يتعامل به من كان من أهل العِينة فهو يجعله وسيلة إلى الحرام (الربا)؛ لأن العقد الثاني المبني على الأول يناقض مقصود الشارع، أي الكسب الطيب الحلال. وهنا يُلفت الباحث الانتباه إلى أن هناك الكثير من القواعد الفقهية التي تدل على ما سبقت الإشارة إليه، منها أن (الأمور بمقاصدها) وأن (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) ... يقول "ابن تيمية" في هذا الشأن: "المقاصد والنيات مُعتبرة... تجعل الفعل حلالا أو حراما، صحيحا أو فاسدا"(1). وقال "صلى الله عليه وسلم": (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)(2).
وفي النازلة وضح بجلاء أن المفتي مُلزَم بالنظر في تحقيق مناط المتعاقدين في هذا النوع من العقود، وأن يقارن ويقارب بين المناطات وينظر إلى نتيجتها، ليكون حكمه على فعل المكلف محقِّقا للغاية التي يقصدها الشارع من تشريع الأحكام.
بقي أن يشير الباحث إلى أن فقهاء المذهب المالكي -عند الإفتاء-ينظرون إلى حال المكلف ويعتبرونه قرينة وعلامة على مآل الفعل أو مآل الحكم، ويُعملونه في نظرهم الفقهي. خصوصا وأن فساد العقود عند المالكية يكون بفساد نية المتعاقدين، خلافا للشافعي الذي يذهب إلى أن العقود إنما تثبت بظاهر عقدها.
ومما سبق يمكن القول إن قاعدة سد الذرائع اعتبارا للمآل في بيع العِينة تنبني في أهم جزئياتها على تحقيق المناط، وهو بحث يجريه المتصدي للإفتاء في حال المتعاقدين (المكلف)، فيتبع الأمارات والعلامات والقرائن في اجتهاده، فإن بان له قصد المتعاقدين أو أحدهما إلى مخالفة مقصود الشارع عن طريق إظهار ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، وأنهما تذرعا بالحلال للوصول إلى الحرام (الربا)، حَكَمَ بفساد العقد سدا للذريعة واعتبارا للمآل، ولقوله "صلى الله عليه وسلم": ( إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)(3).
المطلب الثاني: قاعدة الاستحسان في أصل اعتبار المآل
يعتبر الاستحسان قاعدة من قواعد أصل اعتبار المآل، وسنرى كيف أن عدول المجتهد عن القياس، أو عن قاعدة كلية إلى مصلحة جزئية بطريق الترجيح، هو لب النظر الفقهي الاستصلاحي المآلي، الذي ينظر في مآلات الأحكام لينأى بالمكلف عن الحرج والتضييق ويدخله تحت رحمة اللطف والتيسير. وهذا يُعد قمة في جلب المصلحة ودرء المفسدة.
وسيتعرض الباحث فيما يلي إلى تعريف الاستحسان لغة، وفي الاصطلاح الفقهي، ثم يعرض لنازلة من نوازل المعاملات المالية في الإجارة المجهولة، متلمسا بعض آثار اعتبار المآل في تنزيل حكمها.
-
-
تعريف الاستحسان لغة وفي اصطلاح الفقهاء:
في اللغة أصل كلمة الاستحسان من الحُسن، والحُسن ضد القُبح... والمحاسن من الإنسان ضد المساوئ(1)، ويَستحسن الشيء أي يَعُده حسنا(2)، وهو ما يميل الإنسان إليه ويهواه من الصور والمعاني، وإن كان عند غيره مُستقبحا(3)، وهو عبارة عن كل مُبهج مرغوب فيه، وذلك على ثلاثة أضرب، مستحسن من جهة العقل، مستحسن من جهة الهوى، مستحسن من جهة الحس(4).
ومما سبق يتضح أن مدار كلمة الاستحسان في اللغة على عد الشيء حسنا، أقول استحسنته إذا عدَدْته حسنا.
وفي الاصطلاح الفقهي اختلفت تعاريف الاستحسان وتباينت عند العلماء، ومرد ذلك يعود بالأساس إلى اختلاف المضمون الذي يعطيه كل عالم لهذا المفهوم، ولاستجلاء ذلك لا بد من إيراد بعض التعاريف التي جاءت على لسان بعض أعلام المذهبين الحنفي والمالكي(5)؛ لاشتهارهم بالقول بالاستحسان والاعتداد به كقاعدة للاجتهاد في تنزيل الأحكام على وقائع الناس اعتبارا للمآل.
يقول "الإمام الشاطبي" في الموافقات: "وهو -أي الاستحسان-في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس... كالقرض مثلا فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنه أُبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين"(1). وهو نظرٌ في المآل، إذ لو بقي الحكم على أصله لدخل الضيق والحرج على المكلفين في المنع من هذه المعاملة.
وقد اعتبر "ابن العربي" في المحصول أن "الاستحسان في المذهب قد يكون تركا للدليل للمصلحة، أو للعرف، أو لدليل إجماع أهل المدينة، وأيضا للتيسير لرفع المشقة"(2). وذهب "محمد بن خويز منذاذ" إلى أنه "الأخذ بأقوى الدليلين، مثل تخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر للسنة الواردة في ذلك"(3). وعرّفه من الأحناف "أبو الحسين البصري" بقوله: "الاستحسان هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ، لوجه هو أقوى منه، وهو حكم الطارئ على الأول"(4)، أما "الغزالي" الشافعي فذهب إلى أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله.
من أقوال العلماء المتقدمة نعلم أن هناك شبه تقارب بين المذهبين المالكي والحنفي في نظرهم إلى قاعدة الاستحسان، فَجُل التعاريف السابقة تكاد تجمع على أنه الأخذ بدليل جزئي في مقابل دليل كلي اعتبارا للمصالح التي جاءت بها المقاصد الشرعية. وفي الطرف الآخر نجد "الإمام الشافعي" ومن معه ينكرون الاستحسان ويعتبرونه اجتهادا بالهوى والتشهي، وفيما ينسب إلى الشافعي قوله: من استحسن فقد شرع.
-
أثر الاستحسان في أصل اعتبار المآل:
النازلة التي سيناقشها الباحث وردت في "النوازل الكبرى" للوزاني رحمه الله، وهي تتعلق بعقد من عقود المعاملات المالية، والذي يتشابه مع غيره من المعاوضات كالقراض والمساقاة. لذا ارتأى بعد عرض النازلة أن يعرّف الإجارة ويفرّق بينها وبين بعض العقود القريبة منها كالقراض والمساقاة، لما لذلك من توجيه للبحث من حيث أن بعض العقود يكون الأصل فيها البطلان، لكن العلماء وفي نظرهم المآلي استحسنوا جوازها دفعا للضيق والحرج، واعتبارا للضرورة والمصلحة في إباحتها دونما مناقضة لمقاصد الشارع.
نص النازلة: (سُئل أبو "القاسم بن سراج" الأندلسي عمّن يُعطي الجِباح لمن يخدمها بجزء من غلتها، فقال: هي إجارة مجهولة)(1).
والإجارة مأخوذة من الأجر بمعنى الثواب، يقال: استأجر الرجل على عمل بأجر أي بثواب يعطيه له على عمله، قال تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ( ]الطلاق:6[، وعرفها "ابن عرفة" بقوله: بيعُ منفعةِ ما أمكن نَقله غَيْرَ سفينةٍ ولا حيوانٍ لا يعقلُ بعوضٍ غير ناشئٍ عنها بعضُهُ يتبعضُ بتبعيضها(2). وهي عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض، ويخص المالكية غالبا لفظ الإجارة بالعقد على منافع الآدمي(3)، أما غيرهم فيعتبرونه كراء.
من التعريفين السابقين نعلم أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات، وهو-عند المالكية-بيع منفعة بعوض خاص بمنافع الآدمي، دون كراء الحيوان أو الدور.
أما القراض فهو عند "ابن عرفة" المالكي: تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه لا بلفظ الإجارة(4)، في حين عرف المساقاة بقوله: عقد على مؤونة النبات بقدر لا من غلته، لا بلفظ بيع أو إجارة(5). إذن القراض أن يدفع الرجل إلى الآخر مالا ليتاجر به، على أن يكون الربح بينهما بما يتفقان عليه، فهما شريكان في الربح والخسارة، وتسمى كذلك المضاربة. أما المساقاة أن يدفع رجل شجره إلى غيره ليصلحه بجزء من ثمره.
هذه العقود الثلاثة ـ: الإجارة والقراض والمساقاة ـ؛ كلها مستثناة من الأصل الكلي، إذ يقع فيها التعاقد على المجهول والمعدوم وهو نوع من الغرر، إلا أنها استحسنت لعُرف التعامل بها، ولما في ذلك من مصلحة للناس، إذا مُنعت دخل عليهم التضييق في المعاملات. وبالرجوع إلى نص النازلة نجد أن أبا القاسم بن سراج أجاب السائل بكلمتين فقط: "هي إجارة مجهولة".
إن الأصل الذي تنبني عليه هذه المعاملة المالية هو أن تكون الأجرة فيها معلومة، وهي تتحدد بالاتفاق بين المستأجر والأجير، لما رُوي عن "أبي سعيد الخدري"، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يُبين له أجره)(1)، فأمر عليه السلام بتسمية الأجرة. وأما أن يأخذ الأجير جزء من غلة الجباح فهي إجارة مجهولة، لكن "أبا القاسم بن سراج" أجازها لأنه علِم أن من أصول المذهب المالكي مراعاته للحاجيات. جاء في النوازل الكبرى ما نصه: هي إجارة مجهولة رخص فيها للضرورة كغيرها من الأمور الحاجيات والضروريات، لأن من أصول مذهب مالك أنه يراعي الحاجيات كما يراعي الضروريات(2).
ومذهب السلف جواز الإجارة بجزء منها قياسا على القراض... وهذا استحسان.(3) ووجه اعتبار المآل في هذه النازلة، أنه لو أجريت على أصلها العام الذي يمنع الإجارة المجهولة، لَلَحِق الناس المشقة والعنت والضيق والضرر، لذلك جُوزت هذه المعاملة المالية لما فيها من جلب لمصلحة أكبر من المفسدة التي تُتَوقع من الجهالة الواقعة في عقد الإجارة، وما ذلك إلا عين اعتبار المآل.
ومما لا شك فيه أن ترك مالك لأصل الدليل الكلي عندما يستحسن إنما لما يراه في هذا الترك من تحقيق لمصالح الناس عامة، التي قررتها النصوص وتغيتها مقررات التشريع وأهدافه العامة، وهنا توجد الرابطة الوثيقة بين الاستحسان والمصلحة. وهذا قمة في اعتبار المآل عند مالك رحمه الله.
ومما سبق يتضح بجلاء أن النظر المصلحي عند الفقيه أو المجتهد في أفعال المكلفين، يقتضي منه في بعض المواضع الاستحسان، أي العدول عن الدليل الأصلي وأن يفتي بخلاف ظاهره؛ لأن تحقيق مناط الأشخاص والأنواع والتفاعل مع الواقع يقتضي تقديم الاستدلال المرسل على القياس الجلي.
من خلال قاعدتي أصل اعتبار المآل السابقتين: سد الذرائع والاستحسان، نعلم أن الشريعة نظرت إلى النتائج التي تُفضي إليها المعاملات المالية بين الناس؛ فكل معاملة تَرتب عنها مخالفة ومناقضة لروح التشريع ومقاصده في الخلق إلا وحكم بتحريمها. وعلماء المالكية توسعوا في هاتين القاعدتين إذ وَجد الباحث أنهم يعتبرون القصود كمتحكمات في أحكام الحل والحرمة في المعاملات المالية، وقد خالفوا في ذلك الشافعية الذين يحكمون عليها بالظواهر فقط، ولا ينظرون إلى النوايا.
وفي آخر هذا المحور سيسلط الباحث الضوء على بعض المعاملات المالية المنتشرة بكثرة في مجتمعنا المغربي، لينظر في مدى موافقتها لمقاصد الشريعة الإسلامية، وكذا العلل التي تناط بأحكامها.
المطلب الثالث: تنزيل الحكم الشرعي على المعاملة المالية المعروفة بـ "دَارْتْ"
يعمد الباحث من خلال هذا المطلب إلى بيان صورة المعاملة المالية الموسومة بـ "دارْتْ"، ثم يجلي أدلة مجيزيها ومانعيها، لينتقل في الأخير إلى تنزيل الحكم الشرعي المناسب عليها بناء على المعاني والعلل الملحوظة، مراعيا مقاصد الشريعة في التصرف في المال.
-
صورة المعاملة:
صورة المعاملة أن يتفق ثلاثة أو أكثر، على أن يضع كل واحد منهم مبلغا محددا من المال بالتساوي. ويضعونه في حساب بنكي أو عند أحدهم، على أساس أنه عندما يجتمع المبلغ يأخذه أحدهم بالقرعة. ثم يستأنفون الجمع حتى يجتمع نفس المبلغ الأول، فيأخذه واحد من الباقين بالقرعة أيضا، وهكذا إلى أن يستفيد من العملية آخر شخص منهم.
وهي معاملة شائعة بين الناس في أيامنا المعاصرة، بين الموظفين، وبين العمال، وحتى بين النساء ربات البيوت. وقصد المشاركين في هذه القرعة هو اذخار المال، وذريعتهم في ذلك أن متطلبات الحياة المادية أصبحت كثيرة، لا تسمح بتوفير مبالغ مهمة إلا بهذه الطريقة؛ إذ يصبح المرء مجبرا على أداء المبلغ المستحق، مرة في الأسبوع أو في الشهر حسب الاتفاق، وحين موعد دوره يحصل على مبلغ مالي مهم يلبي به حاجة من حاجاته.
وقد تضاربت آراء الناس كما الفقهاء المغاربة، بخصوص الحكم الشرعي لهذه المعاملة، بين محلل ومحرم لها. وسيعمد الباحث إلى عرض أقوال وحجج وأدلة الفريقين، وينظر في مآلاتها، ليرى مدى موافقتها لمقاصد الشريعة في الأموال، ويُنزل عليها الحكم الشرعي المناسب.
-
أدلة المجيزين لمعاملة دارت:
احتج فريق المجيزين لمعاملة "دارت" بمجموعة من الحجج، نعرضها كما يلي:
-
إن مقصود الجماعة من هذه المعاملة هو الاذخار والجمع، ولا يقصدون السلف.
-
إن هذا السلف لا زيادة فيه، لأن كل واحد يأخذ نفس القدر الذي يأخذه الآخر دون زيادة.
-
إن هذا السلف لا يقصدون به جر منفعة لواحد بعينه، أو لبعضهم دون البعض، وإنما يقصدون المنفعة المتساوية المتبادلة. وإن النهي عن سلف جر نفعا خاص بما تحقق فيه النفع للمقرض وحده، أما إذا تحقق لطرفين فهذا هو الأصل في المعاملات، وإلا فلا فائدة ولا معنى لها.
-
إن قاعدة "أسلفني وأسلفك" لا تتنزل على معاملة "دارت"، واستدلوا لذلك أن شراح خليل نزّلوا ذلك على البيع الذي يؤول إلى ذلك.
-
إن تهمة "سلف جر منفعة" لا تتنزل على هذه المعاملة؛ لأن خليلا ومن قبله من الفقهاء إنما أنكروا ذلك في بيوع الذرائع التي تؤول إلى ما لا يجوز، وأن هذه المعاملة لا يقصد بها التذرع إلى جر منفعة خاصة، وإنما قصد المتعاملين بها إلى الجمع والاذخار والتعاون على ذلك.
-
-
أدلة المانعين لمعاملة دارت:
أما الذين ذهبوا إلى حرمة هذه المعاملة المالية، فقد احتجوا هم كذلك بجملة من الحجج، نعرضها كما يلي:
-
هذه المعاملة فيها "السلف بشرط السلف"؛ وهو ممنوع لأنه سلف جر نفعا، وهو حرام إجماعا، لقوله "صلى الله عليه وسلم": (كل سلف جر نفعا فهو ربا).
-
السلف أحد الثلاثة التي لا يجوز أن تكون لغير الله. وهذا القرض لا يقصد به وجه الله. قال الناظم:
الْقَرْض وَالضَّمان رفق الجاه *** تُمنــــع أَن تُرى لغيــــر الله(1)
-
هذه المعاملة هي قرض مؤجل بأجل مجهول، لأن كل واحد من الجماعة أسلف المستفيد الأول حظه من المال الذي أخذه بالقرعة على وجه السلف. ولن يرد إليه السلف إلا عندما تأتي نوبته، وهو لا يدري متى تسعده القرعة بنوبته. وذلك يؤدي إلى قرض لأجل مجهول، وهو مخالف لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)]البقرة: 283[، وهو شامل للقرض كما حكاه القرطبي.
-
وهو يقتضي اشتراط تحديد الأجل وتسميته، سدا لذريعة النزاع في المستقبل بين المقرض والمقترض، لأن المقرض لا حق له في المطالبة باسترداد قرضه قبل حلول أجله، كما يقول فقهاؤنا المالكية، وحجتهم حديث: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرّم حلالا)(1).
-
الجماعة حين يتفقون في أول الأمر على توفير مبلغ من المال بالتساوي، فإنهم يتفقون على أن يأخذ كل واحد منهم بالتناوب ما تجمع لهم على وجه السلف، فيدخله "أسلفني وأسلفك".
-
كل واحد يسلف المستفيد الأول حصته من المال المجتمع ليسلفه بقية الشركاء حين تأتي نوبته، فهي من باب "أسلف فلان وأسلفك"، وهي مثل "أسلفني وأسلفك" في الحرمة، وعلتها، قال مالك -رحمه الله -فيمن قال لرب الدين أخر مدينك وأنا أعطيك ما تحتاج إليه " أنه لا يجوز ذلك".
-
ووجه أن تأخير المدين بالدين بعد حلوله يعدّ سلفا جديدا، لقاعدة أن "من أجّل ما عجّل عُد مُسلفا"، فرَبُّ الدين أمر مدينه بتأخيره مقابل أن يسلفه من قال له: "أخر مدينك، وأنا أعطيك ما تحتاج إليه". فهو سلف مقابل سلف، المؤدي إلى سلف جر نفعا.
-
المستفيد الأول سلف من الجماعة، وما يدفعه بعد ذلك من المال يعد قضاء لدينه، وردا لما سلفه، فلا يتنزل عليها قاعدة "أسلفني وأسلفك" لوجود طرفين فقط الآمر والمأمور، ولكن يتنزل عليها مسألة "أسلف فلان وأسلفك"، لدورانها بين أطراف عدة.
-
-
تنزيل الحكم الشرعي:
استنادا إلى الأدلة التي عرضها الفريقان، يرجح الباحث أن المعاملة المالية الشعبية المعروفة في أوساط المغاربة باسم "دارْتْ" هي معاملة محرمة شرعا، ويذكر فيما يلي العِلل والأوصاف التي أنيطت بحكم تحريمها:
-
نية السلف حاضرة ابتداء في هذه المعاملة، حين توقيع الاتفاقية بينهم، وهم يعلنون ذلك ولا يخفونه. والعرف جار بينهم بتسليف المال المجتمِع، والعُرف كالشرط، وأيضا السلف ينعقد بكل ما يدل عليه ويفهم منه؛ لأن العبرة في العقود بالمعاني لا بالمباني.
-
قول المجيزين أنه لا زيادة في مقدار المال، بحيث يأخذ كل واحد نفس المبلغ غير صحيح. ونسوا أن الربا يشمل كل زيادة وفائدة كانت من جنس القرض أو من غير جنسه، لحديث "مالك بن أنس" أن الرسول "صلى الله عليه وسلم" قال: (إذا أقرض أحدكم قرضا، فأهدى له، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)(1).
-
قول المجيزين أن هذه المعاملة لا يقصد بها نفع لواحد بعينه، وإنما المنفعة متبادلة، لا يصمد أمام تحريم كل قرض جر نفعا مطلقا، لذلك عرّف "ابن عرفة" القرض بقوله: "دفع متمول في عوض غير مخالف له لا عاجلا، تفضلا فقط".
-
هذه المعاملة تدخل تحت قاعدة "أسلفني وأسلفك"، دون التصريح بذلك؛ لأن السلف ينعقد بكل ما يدل عليه، وليس من شروطه النطق بكلمة السلف.
-
سد الذريعة إلى الربا في هذه المعاملة أولى من فتحها، لما يؤول إليه الأمر من شقاق وخصومات بين أطراف هذا العقد. فقد علمنا أن جماعة استعانت بهذه المعاملة فجمعوا أول مبلغ سلموه لأحدهم فاشترى شقة، فلما جاء دور الثاني لم يكفِه المبلغ لشراء نفس الشقة لارتفاع الأسعار، فتخاصموا وتنابذوا وطالبوه بالزيادة في مساهمته.
لما تقدم من العلل والأوصاف فهذه المعاملة محرمة شرعا؛ لأن قصد المكلفين فيها مخالف لمقاصد الشارع في الأموال، ولما أسلفنا من دلائل على ذلك.
المطلب الرابع: تنزيل الحكم الشرعي على معاملة "التسويق الهرمي"
في هذا المطلب الأخير، يختم الباحث المبحث بالتعرض لمعاملة مالية مستجدة لا نص صريح من الشرع عليها؛ وهي ما أصبح يعرف في وقتنا المعاصر بـ "التسويق الهرمي"، فيبسط صورة المعاملة، ثم يقوم بتلمس الأوصاف والعلل واعتبار مآلات أفعال المتعاملين بها، لينزل الحكم الشرعي المناسب عليها:
-
-
صورة المعاملة:
التسويق الهرمي هو نموذج عمل يبدأ بشخص أو شركة في أعلى الهرم، يتلخص عملها في إقناع الشخص بالاشتراك أو المساهمة بمبلغ مالي، مع الوعد بإعطائه خدمات أو ربح رمزي إن استطاع إقناع آخرين بالاشتراك بعده، بهدف أنه كلما زادت طبقات المشتركين حصل الأول على عمولات أكثر.
وكل مشترك يُقنع من بعده بالاشتراك مقابل العمولات الكبيرة التي يمكن أن يحصل عليها إذا نجح في ضم مشتركين جدد يتبعونه في قائمة الأعضاء. ويقوم هذا المشروع بالتركيز على عملية الانخراط وربطها بالبيع بغض النظر عن نوعية المنتوج نفسه. ويجب التمييز بين التسويق الهرمي الذي يطالب فيه المتعاون الجديد بأداء استثمار أولي، ويَعِدُ بعمولات مقابل إقناع مستثمرين جدد. وبين التسويق الشبكي الذي قد تلجأ له شركات كبرى للتشجيع على جلب زبناء آخرين بمقابل مادي، لكن دون أن يكون على الزبون دفع أو استثمار ماله الخاص.
تنزيل الحكم الشرعي:
من الناحية الشرعية للدين الإسلامي، وحسب فتوى لـ "مجمع الفقه الإسلامي" فإن البيع الهرمي حرام شرعا(1). وفيما يلي يتتبع الباحث الاستدلال على هذا الحكم الشرعي:
إن هذا النوع من المعاملات محرم، وذلك أن مقصود المعاملة هو العمولات وليس المنتج، فالعمولات تصل إلى عشرات الآلاف، في حين لا يتجاوز ثمن المنتج بضع مئات، وكل عاقل إذا عُرض عليه الأمران فسيختار العمولات؛ ولهذا كان اعتماد هذه الشركات في التسويق والدعاية لمنتجاتها هو إبراز حجم العمولات الكبيرة التي يمكن أن يحصل عليها المشترك، وإغراؤه بالربح الفاحش مقابل مبلغ يسير هو ثمن المنتج، فالمنتج الذي تسوقه هذه الشركات مجرد ستار وذريعة للحصول على العمولات والأرباح. ولما كانت هذه هي حقيقة هذه المعاملة، فهي محرمة شرعا لأمور:
-
أولًا: أنها تضمنت الربا بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة، فالمشترك يدفع مبلغا قليلا من المال ليحصل على مبلغ كبير منه، فهي نقود بنقود مع التفاضل والتأخير، وهذا هو الربا المحرم بالنص والإجماع، والمنتج الذي تبيعه الشركة على العميل ما هو إلا ستار للمبادلة، فهو غير مقصود للمشترك، فلا تأثير له في الحكم.
-
ثانيا: أنها من الغرر المحرم شرعا، لأن المشترك لا يدري هل ينجح في تحصيل العدد المطلوب من المشتركين أم لا؟ والتسويق الشبكي أو الهرمي مهما استمر فإنه لا بد أن يصل إلى نهاية يتوقف عندها، ولا يدري المشترك حين انضمامه إلى الهرم هل سيكون في الطبقات العليا منه فيكون رابحا، أو في الطبقات الدنيا فيكون خاسرا؟ والواقع أن معظم أعضاء الهرم خاسرون إلا القلة القليلة في أعلاه، فالغالب إذن هو الخسارة، وهذه هي حقيقة الغرر، وهي التردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما، وقد نهي النبي "صلى الله عليه وسلم" عن الغرر، كما رواه مسلم في صحيحه.
-
ثالثا: ما اشتملت عليه هذه المعاملة من أكل الشركات لأموال الناس بالباطل، حيث لا يستفيد من هذا العقد إلا الشركة ومن ترغب إعطاءه من المشتركين بقصد خدع الآخرين، وهذا الذي جاء النص بتحريمه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)]النساء: 29[.
-
رابعا: ما في هذه المعاملة من الغش والتدليس والتلبيس على الناس، من جهة إظهار المنتج وكأنه هو المقصود من المعاملة والحال خلاف ذلك، ومن جهة إغرائهم بالعمولات الكبيرة التي لا تتحقق غالبا، وهذا من الغش المحرم شرعا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من غش فليس مني)(1). وقال أيضا: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)(2).
في نهاية هذا المبحث الثاني، يمكن القول إن أصل اعتبار مآلات الأفعال معتبر شرعا، حيث يَعمد المجتهد وهو بصدد النظر في النازلة الجديدة التي لم يرد بها حكم شرعي، فيبحث عن الأوصاف والمعاني والعلل، ويستقصي القرائن التي تحف بها [تحقيق المناط]، ومتى وجد أنها تناقض مقاصد الشرع وروح التشريع حكم بتحريمها. وقد سعى الباحث جادا إلى استدعاء آليتين من آليات الاجتهاد التنزيلي: سد الذرائع والاستحسان، ونزلهما على معاملتين ماليتين: ما يسمى بـ"دارْتْ" والتسويق الهرمي، ووجد بهما من الأوصاف والعلل ما يجعلهما معاملتين محرمتين؛ لدخول المعاملة الأولى تحت نطاق ما نُهي عنه من السلف الذي يجر النفع، ولاشتمال المعاملة الثانية على أوصاف الغش والتدليس المحرمين.
الخاتمة والنتائج:
خلُص الباحث إلى أن الشريعة الإسلامية أناطت الأحكام الشرعية في المعاملات المالية بجملة من المقاصد الشرعية، واعتبرت مآلات تصرفات المكلفين فيها. وأن كل معاملة خرجت عن حدود العدل إلى الجور، هي معاملة محرمة عملا بالقاعدة الكلية؛ أن أحكام الشريعة مبنية على جلب المصالح ودرء الفاسد. وقد رأينا كيف أن كل تصرف تطرق إليه القصد الربوي فالشارع يحرمه، لما يترتب عن ذلك من مفاسد.
ومن بين أهم النتائج التي توصل إليها البحث:
-
فهم النصوص الشرعية عملية ضرورية قبل تصدي المجتهد إلى استنباط الحكم الشرعي، ويتضمن ذلك فهم مقصود الشارع والقرائن الدالة عليه.
-
تنزيل الحكم الشرعي على النوازل المستجدة عملية تتحقق عبر تحقيق المناط الخاص في فعل المكلف في كل نازلة على حدة، وتتطلب استدعاء آليات للتحقيق والتنزيل كسد الذريعة والاستحسان.
-
اعتبار مآلات الأفعال من الضرورات التي وجب على المجتهد اعتبارها في كل نازلة، فكل فعل يتذرع بالحلال لأجل الوصول إلى الحرام مردود على صاحبه.
-
الربا من المعاملات المالية التي توعد الله عز وجل بصريح القرآن مُمتهنيها بأشد أنواع العقوبات، لما لها من أضرار أخلاقية واجتماعية واقتصادية على الفرد والمجتمع.
ومن بين أهم توصيات البحث، يذكر الباحث:
-
إعادة النظر في مجموعة من المعاملات المالية الحديثة، والتي تطورت مع التدفق التكنولوجي الذي يعيشه عالم اليوم.
-
دعوة المراكز البحثية إلى القيام بالدراسات والبحوث الاجتماعية في مجال المالية الإسلامية، وخصوصا ما يتعلق بكسب المال عن طريق المعاملات عن بعد.
-
تنزيل الأحكام الشرعية الخاصة بالإيرادات المالية الحاصلة من الاشتغال على مواقع التواصل الاجتماعي، عن طريق النظر في العلل والأوصاف المُحتفة بها.
-
ضرورة انفتاح الدراسات الإسلامية الحديثة على المناهج الإحصائية والعلوم الاجتماعية، إذ أن ذلك من وسائل تحقيق الفقه بالواقع الذي تُنزل فيه الأحكام الشرعية على المعاملات المالية المستجدة.
قائمة المراجع:
-
القرآن الكريم.
-
ابن تيمية، أحمد،)1408هـ /1987م(، الفتاوى الكبرى، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
-
ابن عاشور، محمد الطاهر،) 1984م(، التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر.
-
ابن عبد السلام، علي،)1418هـ /1998م(، شرح تحفة الحكام، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
-
ابن علي الطيب، محمد،)1403هـ(، المعتمد في أصول الفقه، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
-
ابن قيم الجوزية، شمس الدين،)1411هـ/1991م (، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
-
ابن منظور، جمال الدين،) 1433هـ/1979م(، لسان العرب، ط3، بيروت، دار صادر.
-
أبو إسحاق، الشاطبي،)1997هـ/ 1417م(، الموافقات، ط1، دار ابن عفان.
-
أبو الحسين، ابن فارس، )1399هـ/1979م(، مقاييس اللغة، دار الفكر.
-
أبو القاسم، الزمخشري،)1419 هـ /1998م(، أساس البلاغة، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
-
أبو الوليد، الباجي، 1415هـ /1995م، إحكام الفصول، ط2، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
-
أبو بكر، محمد بن العربي، ) 1420هـ /1999م(، المحصول، ط1، عمان، دار البيارق.
-
أبو حامد، الغزالي،) 1413هـ /1993م(، المستصفى من أصول الفقه، ط1، دار الكتب العلمية.
-
أبو عبد الله، الرصاع،)1993م(، شرح حدود ابن عرفة، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
-
أبو عبد الله، القرطبي،)1384هـ /1964م(، الجامع لأحكام القرآن، ط1، القاهرة، دار الكتب المصرية.
-
احميتو، يوسف بن عبد الله، ) 2012م(، مبدأ اعتبار المآل، ط1، بيروت، دار وجوه للنشر والتوزيع.
-
الأصفهاني، الراغب، )1430هـ /2009م(، مفردات ألفاظ القرآن، ط4، دار القلم -الدار الشامية.
-
بلتاجي، محمد، مناهج التشريع الإسلامي، ط2، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة.
-
التهانوي، محمد،)1996م(، الكشاف، ط1، بيروت، مكتبة بيروت ناشرون.
-
الجرجاني، علي بن محمد،)1403هـ/1983م(، التعريفات، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
-
الرملي، شهاب الدين،)1404هـ/1984م(، نهاية المحتاج، بيروت، دار الفكر.
-
الزَّبيدي، محمد، 1965)م(، تاج العروس، الكويت، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع.
-
الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، القاهرة، دار ومكتبة الهلال.
-
القونوي، صدر الدين،) 2004م/1424هـ(، أنيس الفقهاء، دار الكتب العلمية.
-
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"، فتوى رقم: (22935)، التاريخ: 14/3/1425هـ.
-
المترك، عمر بن عبد العزيز، الربا والمعاملات المصرفية، ط3، م.ع.س، دار العاصمة للنشر والتوزيع.
-
المودودي، أبو الأعلى،)1407هـ/1987م (، الربا، (ب. ط)، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع.
-
النفراوي، شهاب الدين، 1415هـ /1995م، الفواكه الدواني، دار الفكر.
-
الوزاني، محمد بن الحسن،)1419هـ/ 1998م(، النوازل الجديدة الكبرى، المغرب.
(1)(1) ابن عاشور، محمد الطاهر، 1984)م(، التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر، ج3، ص78-79.
(2)(2) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، القاهرة، دار ومكتبة الهلال، ج8، ص283.
(1)(1) أبو الحسين، ابن فارس،)1399هـ/1979م(، مقاييس اللغة، دار الفكر، ج2، ص483.
(2)(2) الجرجاني، علي بن محمد،)1403هـ/1983م(، التعريفات، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، ص 109.
(3)(3) التهانوي، محمد،) 1996م(، الكشاف، ط1، بيروت ، مكتبة بيروت ناشرون، ج1 ، ص841.
(4)(4) أبو عبد الله، القرطبي،) 1384هـ /1964م(، الجامع لأحكام القرآن، ط1، القاهرة، دار الكتب المصرية، ج1، ص348.
(5)(5) ابن عاشور، مرجع سابق، ج3، ص81.
(1)(1) إلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت، بل رأى عمر أن لفظ الربا نُقل إلى معنى جديد ولم يُبين جميع المراد منه فكأنه عنده مما يُشبه المُجمل. "التحرير والتنوير"
(2)(2) النفراوي، شهاب الدين،) 1415هـ /1995م(، الفواكه الدواني، دار الفكر، ج2، ص73.
(3)(3) المترك، عمر بن عبد العزيز، الربا والمعاملات المصرفية، ط3، م.ع.س، دار العاصمة للنشر والتوزيع، ص156.
(4)(4) ابن عاشور، مرجع سابق، ج3، ص89.
(5)(5) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(6)(6) المترك، مرجع سابق، ص56.
(1)(1) ابن عاشور، مرجع سابق، ج3، ص89.
(2)(2) المترك، مرجع سابق، ص 139-140.
(3)(3) الرملي، شهاب الدين،)1404هـ/1984م(، نهاية المحتاج، بيروت، دار الفكر، ج3، ص424.
(4)(4) ابن عاشور، مرجع سابق، ج3، ص89.
(1)(1) المودودي، أبو الأعلى، )1407هـ/1987م(، الربا، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ص49.
(1)(1) المرجع السابق، ص63.
(1)(1) ابن منظور، جمال الدين،) 1933هـ/1979م(، لسان العرب، ط3، بيروت، دار صادر، ج8، ص96.
(2)(2) أبو القاسم، الزمخشري،) 1419 هـ /1998م(، أساس البلاغة، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، ج1، ص311.
(1)(1) القرطبي، مرجع سابق، ج2، ص58.
(2)(2) ابن تيمية، أحمد،)1408هـ /1987م(، الفتاوى الكبرى، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، ج6، ص172.
(3)(3) صورته أن تباع السلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها البائع من المشتري بثمن مُعجل، بأقل مما باع به، وهو من البيوع المنهي عنها، لأنه من الذرائع إلى أكل الربا. (انظر سد الذرائع في الشريعة الإسلامية لمحمد هشام برهاني، ص460).
(4)(4) الوزاني، المهدي،) 1419هـ/ 1998م(، النوازل الجديدة الكبرى، المغرب، ج6، ص29.
(1)(1) ابن قيم الجوزية، شمس الدين،) 1411هـ/1991م (، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، ج3، ص121.
(2)(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رح: 1، ج1، ص6. ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات"، رح: 1902، ج3، ص1515.
(3)(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، باب مسند عبد الله بن عمر "ض"، رح: 4825، ج8، ص440. وأبو داود في سننه، باب في النهي عن العِينة، رح: 3462، ج3، 274.
(1)(1) ابن فارس، مرجع سابق، مادة (حسن)، ج2، ص57-58.
(2)(2) ابن منظور، مرجع سابق، مادة (حسن)، ج13، ص117.
(3)(3) الزَّبيدي، محمد، 1965)م(، تاج العروس، الكويت، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع ، مادة (حسن)، ج9، ص176.
(4)(4) الأصفهاني، الراغب، ) 1430هـ/2009م(، مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم، (مادة حسن)، ص235.
(5)(5) لمزيد من التفصيل، يُرجى النظر في كتاب: اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، عبد الرحمان بن معمر السنوسي، ص293.
(1)(1) أبو إسحاق، الشاطبي،) 1997هـ/ 1417م)، الموافقات، ط1، دار ابن عفان، ج5، ص195.
(2)(2) أبو بكر، محمد بن العربي،)1420هـ/1999م(، المحصول، ط1، عمان، دار البيارق، ص132 بتصرف.
(3)(3) أبو الوليد، الباجي،)1415هـ /1995م(، إحكام الفصول، ط2، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ج2، ص694.
(4)(4) ابن علي الطيب، محمد،)1403هـ(، المعتمد في أصول الفقه، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، ج2، ص196.
(1)(1) الوزاني، مرجع سابق، ج، ص114.
(2)(2) النفراوي، مرجع سابق، ج2، ص109.
(3)(3) احميتو، يوسف بن عبد الله،)2012م (، مبدأ اعتبار المآل، ط1، بيروت، دار وجوه للنشر والتوزيع، ص289.
(4)(4) الرصاع، شرح حدود ابن عرفة، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993م، ص500.
(5)(5) المصدر نفسه، ص508.
(1)(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، في مسند أبي سعيد الخدري، رح: 11565، ج18، ص116.
(2)(2) الوزاني، محمد، )1419هـ/ 1998م(، النوازل الكبرى، ج8، ص115.
(3)(3) احميتو، يوسف، مرجع سابق، ص292.
(1)(1) ابن عبد السلام، علي، ) 1418هـ /1998م(، شرح تحفة الحكام، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، ج1، ص296.
(1)(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب في الصلح، رح: 3594، ج3، ص304. والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الشركة، باب الشرط في الشركة وغيرها، رح:11429، ج6، ص131. والدارقطني في سننه، كتاب البيوع، رح: 2890، ج3، ص426.
(1)(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، جماع أبواب الخراج بالضمان والرد بالعيوب، باب كل قرض جر منفعة فهو ربا، رح: 10934، ج5، ص573.
(1)(1) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم: (22935)، تاريخ 14/3/1425هـ.
(1)(1) أخرجه الترمذي في العلل الكبير، أبواب البيوع، ما جاء في كراهة الغبن في البيوع، رح: 348، ص196. والطبراني في المعجم الكبير، باب الهاء، هلا بن الحارث أبو الحمراء...ج22، ص199. وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب النهي عن الغش، رح: 2225، ج2، ص749.
(2)(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، أول مسند البصريين، حديث أبي برزة الأسلمي، رح: 19813، ج33، ص47، وأبو داود في سننه، أبواب الإجارة، باب في خيار المتبايعين، رح: 3457، ج3، 273.
EL KASMI Mohammed || Al-ijtihad in some rulings of usury: Comprehensiveness and implementation ||Ibn Khaldoun Journal for Studies and Research || Volume 2 || Issue 6|| Pages 24 - 48.
0
Article Title | Authors | Vol Info | Year |
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Article Title | Authors | Vol Info | Year |