2
6
2022
1682060055167_2335
https://drive.google.com/file/d/1I_4Vl1eJ_6vSuh_4JjNr8FRdtTBhUjCB/view?usp=sharing
The objectives of belief between understanding and commandment
يوسف لوكيلي: أستاذ التعليم العالي مساعد، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين – وجدة، المغرب
Abstract:
Belief is considered as the origin of the assets of Islam. Neither foundation nor branch stands unless depending on Belief; which means that the understanding of the foundations and branches of Islam depends upon the undestanding of the Isamic Belief (Al aqida(. Therefore, the perfect revelation of the Islamic rules starts with the right understanding of the origin of the assets, which is Belief (Al aqida), and the understanding of (Al aqida) doesn't occur unless it is linked to the intention of ALLAH from it. In this study, I used an analytical decriptive method, where I associated (Al aqida) with the objectives of Understanding and commandment, as the first one is oriented to the establishment of vision and the second shows the effects of (Al aqida) upon behaviours. Throughout study and research Icome to many conclusions : Allah's objective behind Al aqida's rules is establishing the right vision centered on the Unification (Attawhid) and guiding Muslim's behaviours ;The rules of Al aqida are understandable bye all the commanded people, were they stupid or genius ;Allah's intention from Al aqida is achieving worship in its various aspects .I noted down the following recommendations : Liberating Al aqida from the theological polemic approach and linking it to the objectives of Islam ;Putting the Objectives (Almaqassid) as a methodological framework to Al aqida studies; Linking Al aqida's themes with the commandment as far as vision and practice are concerned.
Keywords: belief, understanding, assignment.
المقدمة:
يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَٱعْبُدُونِ) (الأنبياء – 25). إذا كانت العقيدة الصحيحة هي الغاية الأولى للشرائع السماوية، والوظيفة الأسمى للرسل والأنبياء، فإن المنهج البحث في العقيدة الصحيحة لا يقل أهمية عن أهمية العقيدة نفسها.. لذلك فإن النصوص الشرعية لم تقصر اهتمامها على بيان أسس العقيدة الصحيحة فقط، بل تجاوزت ذلك لإرساء منهج رصين في تثبيتها والتربية عليها، فقد عرض القرآن الكريم والسنة النبوية المفاهيم العقدية بأسلوب يتميز بدرجة عالية "من القرب للفهم، والسهولة على العقل، بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم، أو بليدا، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ولم تكن أمية وقد ثبت كونها كذلك، فلابد أن تكون المعاني المطلوبة علمها واعتقادها سهلة المأخذ.."(1).
وبذلك استطاعت العقيدة الإسلامية أن تنقل الألوهية من مفهوم مجرد غاية في التعقيد، إلى مفهوم معقول وميسر، من غير إخلال بما تستوجبه الألوهية من عظمة وكمال وجمال..
لكن رغم ذلك فقد غفل أقوام عن هذا المقصد وغاصوا فيما لا قبل لهم به، وأدى بهم ذلك إلى الانجرار وراء مباحث جدلية مغرضة في التجريد، إلى درجة يصعب معها التماس وجه التكليف العملي فيها، بل إن هذا الانجرار قد يدخل العقل في متاهات لا قبل له بها.
وكان الأجدر بهم تلمس الغايات والمقاصد التي ربط بها الشارع المفاهيم العقدية، هذا الخلل المنهجي كان عائقا في أن تثمر العقيدة المقصد المبتغى منها، فبدلا من أن تنتج التربية العقدية التوحيد والجمال والرقي السلوكي.. أثمرت التفرقة والجدال والتكفير..
إشكالية الدراسة:
تتمثل إشكالية الدراسة في تسليط الضوء على كيفية استثمار المنهج المقاصدي في مباحث العقدية (وخاصة من خلال مقصدي الإفهام والتكليف)، وبيان أثار ذلك في إنتاج العقيدة لثمارها المقصودة شرعا..
منهج الدراسة:
وقد استخدمت في هذه الدراسة المنهج الوصفي، وذلك بجمع النصوص التي تخدم فكرة الدراسة، وربط العلاقات بينها، قصد استنتاج المقاصد العقدية في ضوء الإفهام والتكليف
المبحث الأول: أثر مقصد الإفهام في مباحث العقدية
إن الحديث عن مقصد الإفهام في العقيدة الإسلامية يقتضي التوقف أولا عند مقصد الإفهام من حيث سنده ومعناه (المطلب الأول)، قبل التوقف عند أثر هذا المقصد في العقيدة الإسلامية (المطلب الثاني).
المطلب الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام
من تدقيق الشاطبي وتحريره لمفهوم المقاصد، أنه قسمها إلى أنواع متكاملة لا يستقيم واحد منها دون غيره فقسم المقاصد من حيث القاصد إلى مقاصد للشارع، ومقاصد للمكلف، وقسم الأولى إلى أربعة أنواع جعل في أُسها مقصد الإفهام، بحيث قال: "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان:
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع؛ والآخر يرجع إلى قصد المكلف.
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء، ومن جهة قصده في وضعها للإفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها، فهذه أربعة أنواع"(2).
وبالرجوع إلى مقصد الإفهام الذي يهمنا في هذا المطلب، فقد عمل الشاطبي على بيان معناه من خلال خمسة مسائل بحيث قال: "في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل.."(3)
وهذه المسائل تدور حول محورين كبيرين:
الأول: ما عبر عنه الشاطبي بقوله "إن هذه الشريعة المباركة عربية، لا مدخل فيها للألسنة العجمية.."(4) وغاية الشاطبي هنا ليست الخوض في الخلاف الدائر حول ما إذا كان القرآن الكريم يتضمن ألفاظا ذات أصول أعجمية أم لا، وإنما التأكيد على أن القرآن الكريم تنزل بلسان العرب وأنه عربي وأنه لاعُجمة فيه(5)، بمعنى أنه نزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها..
غاية ما يريده الشاطبي أن فهم القرآن وفهم الشريعة عموما ينبغي أن يكون طلبه بلسان العرب وفق معهود العرب وقواعدهم في استعمال اللغة، واستدل على ذلك بعدد من الآيات منها:
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]
(لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 103]
وقد ميز الشاطبي في اللسان العربي من حيث دلالة الألفاظ على معانيها بين العبارات المطلقة التي يشترك فيه اللسان العربي مع كل الألسنة من حيث دلالة اللفظ على المعنى وهذا كلام يمكن أن تستعمل فيه مختلف اللألسنة للتعبير عن نفس المعنى دون خصوصية أو كلفة، أما النوع الثاني فهو ما يختص به اللسان العربي من أدوات خادمة ومكملة للإخبار تتميز بها عن باقي الألسنة وتكون هذه الخصوصية متنوعة حسب الخبر والمخبر والمخبر عنه والحال والمساق والأسلوب..(6)
والشاطبي إنما قدم هذا التفريق بين الوجهين من حيث دلالة الألفاظ ليبين أن ترجمة النص القرآني بغير اللسان العربي ممكن باعتبار الجهة الأولى دون الثانية، لأنه يُفقده معناه.. وكأنه يشير إلى أن فهم القرآن الكريم ومن خلاله الشريعة الإسلامية وإفهامهما، ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الفرق بين الجهة الأولى التي تشترك فيها اللغة العربية مع غيرها، وبين الجهة الثانية التي تختص بها اللغة العربية ولغة القرآن على وجه الخصوص دون سائر اللغات، مع استحضار العلاقة بين الجهتين وهو ما عبر عنه بقوله: " وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدتها كوصف من أوصافها، لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام.."(7)
الثاني: أن هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح..
وقد شرح عبد الله دراز هذا المعنى بقوله: "أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك.."(8).
وأكد الشاطبي على أمر في غاية الأهمية، هو أن هذه اللغة متأثرة بكثير من العلوم التي أتقنها العرب وأيضا الأخلاق التي عرفوا بها، والشريعة أقرت بعض العلوم وأكدت على كثير من أخلاقهم.. وكأن الشاطبي يريد أن يخبرنا بأن لغة الشريعة تحمل في طيتها ثقافة أُصلت عبر أجيال، لكنها لم تحمل منها إلا الحسن والجميل دون القبيح، وهذا ما أشار إليه في قوله: "فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم الحكماء، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله، وكان فيهم أهل وعظ وتذكير.. ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة، وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة.
وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير، تجد الأمر كما تقرر، وإذا تبث هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب(9).
وقد رتب الشاطبي عن أمية الشريعة عدة قواعد منها(10):
-
أنه لا ينبغي أن نحمل القرآن الكريم فوق ما يحتمل من معان وعلوم لم يعرفها العرب ولا تكلم بها الصحابة والسلف الصالح، فالشاطبي يرى أن تضمين القرآن لعلوم غير العلوم المعهودة عند العرب خروج به عن المقصود منه..
-
أن فهم مقصود القرآن الكريم يقتضي إتباع معهود العرب وعرفهم في استعمال الألفاظ والمعاني والأساليب..
أن معاني الشريعة مشتركة ومفهومة لجميع العرب ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف، واشتركت فيه اللغات حتى كانت قبائل العرب تفهمه.
فالله تعالى خاطب الناس على قدر ما يفهمون وكلفهم على قدر ما يستطيعون يستوي في ذلك بليدهم وثاقب الفهم، وهو ما عبر عنه الشاطبي بقوله: " فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم"(11).
-
أن يكون الاهتمام بالمعاني مقدم على الاعتناء بالألفاظ، لأن الأول هو المقصود الأعظم والثاني مجرد وسيلة إليه، وهذا معهود العرب فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، كما أن المعاني بينها تراتب في الأهمية فالمعنى التركيبي مقدم على المعنى الإفرادي، وذلك عندما يغني الأول عن الثاني.. والمقصود هنا الاكتفاء بما يحقق الغاية دون الدخول في تفاصيل لا تغني في المعنى شيئا وهذا ما أكده الشاطبي بقوله: " فإذا كان الأمر هكذا، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب، لأنه المقصود والمراد، وعليه يبنى الخطاب ابتداء، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة، فنلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتُستَبهم على المُلتمس، وتُستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون في غير معمل، ومشيه على غير طريق، والله الواقي برحمته."(12)
-
ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت حكمها(13).
-
أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين: من جهة دلالته على المعنى الأصلي، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصل..وقد أقر الشاطبي جهة الدلالة على المعنى الأصلي، ورجح الشاطبي أن لا يكون للجهة الثانية دلالة مستقلة على حكم شرعي زائد، وإنما هي مؤكدة للمعنى الذي دلت عليه الجهة الأولى الأصلية.. وإن كان قد اعترف بنوع من الاستقلالية للجهة الثانية عندما أقر أن الجهة الثانية تدل على معنى زائد على المعنى الأصلي وهو الآداب الشرعية لكنه يجعل هذه الدلالة من جهة الإقتداء بالأفعال لا من جهة وضع الألفاظ للمعاني..(14) والشاطبي هنا يريد أن يقرر أن الحكم الشرعي مرتبط بالمعنى الأصلي للألفاظ أما المعنى التبعي فلا يدل على أحكام مستقلة وإنما مؤكد وخادم للحكم الشرعي الأصلي، وغايته من ذلك وضع حد للمغالاة في تحميل النصوص الشرعية لمعان غير مقصودة وما قد يثمره ذلك من مشقة على المتلقي في فهم معاني هذه النصوص وفهم الأحكام المقصودة منها.
ورغم إقرار الريسوني بأهمية هذا المباحث في المقاصد، فقد عدها مما لا يدخل في باب المقاصد، وإنما ضوابط لفهم مقاصد الشارع، قال في ذلك: "ورغم أن المسائل الخمس تحتوي على مبادئ قيمة وضرورية في فهم القرآن والسنة وتحصيل مقاصدها، فإني لا أرى أن هذا هو مكان التعرض لها، بل لا أستسيغ جعله - يقصد الشاطبي - لهذه المسائل نوعا من مقاصد الشارع، وإنما هي ضوابط لفهم مقاصد الشارع."(15)
وإن كان ما ذهب إليه الريسوني له وجه من الصواب، فإن الشاطبي قد بسط قواعد للتعامل مع اللغة العربية ليس باعتبارها أدوات للفهم فقط، بل قواعد تنبني عليها المقاصد الشرعية، ذلك أن النصوص الشرعية لها لغتها الخاصة، وفهم هذه اللغة والإحاطة بأساليبها شرط أساسي في تحقيق مقصد الإفهام، "فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(16)، وما لا يتم المقصود إلا به فهو مقصود، فهذه القواعد هي مقصودة للشرع لأن مقصود الإفهام لا يتم إلا بها، وهذا منسجم مع كون: " فلسفة المعرفة اعتبرت الوعي بالوسيلة أعمق وأرسخ من الوعي بالمضمون الذي يتوسل بها إليه"(17).
المطب الثاني: أثر مقصد الإفهام في مباحث العقيدة
من أهم النتائج التي بناها الشاطبي على أمية الشريعية الإسلامية: "أن التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت حكمها "(18).
فقدم العقيدة في ذلك على الشريعة لوعيه بأنها أصل لما سواها، ذلك أن معرفة الله تعالى أصل لما سواها وبها وبالإيمان بالله تعالى يحفظ الدين، ذلك أن الإنسان ما كان له أن يلتزم بشرع الله تعالى، ويتتبع أوامره ويجتنب نواهيه، دون أن يعرف هذا الإله، لذلك كان "أول الواجبات على المكلف النظر والاستدلال المؤدي إلى المعرفة بالله تعالى وبصفاته وتوحيده وعدله وحكمته..."(19) وقد أطبق العلماء على وجوب النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، أو كما قال الإيجي: "النظر في معرفة الله تعالى واجب إجماعا"(20).
إذن معرفة الله تعالى هي المقصد الأول المطلوب من المكلف، وما كان لهذا المكلف أن يتمكن من هذه المعرفة لو لم تكن في حدود إدراكاته العقلية، لذلك نجد العقيدة الإسلامية على درجة عالية "من القرب للفهم، والسهولة على العقل، بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم، أو بليدا، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ولم تكن أمية وقد ثبت كونها كذلك، فلابد أن تكون المعاني المطلوبة علمها واعتقادها سهلة المأخذ..(21)
لذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا ما يسع فهمه، وأرجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات، وحضت على النظر في المخلوقات وأشباه ذلك، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 9]، وسكت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول. نعم، لا ينكر تفاضل الإدراكات على الجملة وإنما النظر في القدر المكلف به"(22).
هذا المعنى هو الذي ينبغي استحضاره عند التعاطي مع نصوص العقيدة، فهي جاءت للإفهام بما ينسجم مع فطرة الإنسان بعيدا عن الغلو والتعقيد، فهي ليست مفهوم طارئا على الإنسان بل إنها عودة به إلى فطرته بمعنى أنها تشبه فطرته من حيث "سموها وصفائها وبساطتها وسماحتها وفي بعدها عن التعقيد والكهانة، وفي واقعيتها الطبيعية، تلائم فطرة الإنسان وتعانق أشواقه في سهولة ويسر، وتأخذ سبيلها إلى القلب دون أي عناء أو جهد وكذلك عقيدة القرآن فلا تحتاج إلى جهد يذكر لكي تغزو الفطرة لأنها والفطرة سواء كلاهما من الله"(23)، لعلل هذه الحقيقة التي يؤكدها التاريخ هي التي جعلت بعض الفلاسفة يجدون أنفسهم مضطرين للاعتراف بأن عقيدة الإسلام أقرب إلى الفطرة، فها هو عبد الله العروي يخبرنا عن جون جاك روسو أنه كان قريبا من هذه الحقيقة فيقول "... بل أكبر الظن أنه - أي روسو - ربما أدرك أن مفهوم دين الفطرة أقرب إلى عقيدة الإسلام منه إلى اليهودية أو المسيحية"(24).
ولما كانت العقيدة الإسلامية منسجمة مع فطرة الإنسان كانت عقيدة واضحة وسهلة ميسر لفهم جميع الناس بعيدة عن أي تعقيد، فعرف القرآن الكريم الله تعالى بتعريف واضح وعميق خال من التعقيد فقال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 9].
ومعنى ذلك "ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلَّها حسنى، وصفاتِه صفات كمال وعظمة، وأفعالَه تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، وهو السميع البصير، لا يخفى عليه مِن أعمال خلقه وأقوالهم شيء، وسيجازيهم على ذلك"(25).
ومع بساطة هذا المنهج، فإنه مبني على منهج علمي وحجاجي يخاطب العقل، فالعقيدة الإسلامية مبنية على العلم لا الخرافة يقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}12"' [محمد: 20].
لذلك لم يجد القرآن حرجا في مطالبة المنكرين بالدليل فقال تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[النمل: 66].
وإذا كان الله تعالى يطالب منكري عقيدة التوحيد بالدليل فمن باب أولى أن يقيم البرهان على صحة عقيدة التوحيد، فهو تعالى يوجه العقل البشري إلى أدلة وجوده من خلال الدعوة إلى التأمل في الكون: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[العنكبوت: 19].
وهو يوجه العقل البشري إلى التساؤل عن مصدر وجوده فيقول تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 33]. وكلا الاحتمالين باطل فلا يبقى إلا كون الله تعالى هو الخالق.
ثم يقيم الدليل القاطع على وحدانيته تعالى فيقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء: 22].
فلو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله سبحانه وتعالى تدبر شؤونهما، لاختلَّ نظامهما، فتنزَّه الله رب العرش، وتقدَّس عَمَّا يصفه الجاحدون الكافرون، من الكذب والافتراء وكل نقص(26).
ثم يرد بشكل منطقي على الذين ينسبون لله ولد فيقول لهم: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 102].
إن استحضار مقصد الإفهام في التعاطي مع مباحث العقيدة الإسلامية يحررها من كثير من الجدالات التي لم تخدمها بقدر ما عقدت مباحثها وجعلتها علما مقتصرا على نخبة محدود من علماء الكلام مع أنها عامة للناس جميعهم، فقوة العقيدة الإسلامية كامنة في وضوحها، لذلك فهي مما ينبغي أن يفهم للمكلف تدريجا بالاعتماد على خطاب واضح مفهوم ومعقول منسجم مع فطرته.
وهكذا فإن فهم مباحث العقيدة لا يكون من خلال السعي إلى الإحاطة بحقيقتها الغيبية المتعالية على العقل البشري، وإنما بالنظر في دلائلها وآثارها في العالم المادي باعتباره غايتها ومجال تنزيلها، يقول الباقلاني: "فإن قال قائل: فخبرونا عن الله سبحانه وتعالى: ما هو؟
قيل له: إن أردت بقولك «ما هو« ما جنسه، فليس هو بذي جنس... وإن أردت بقولك «ما هو« ما صنعه فصنعه العدل والإحسان والإنعام والسماوات والأرض وجميع ما بينهما وإن أردت بقولك «ما هو« ما الدلالة على وجوده، فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره.
وإن أردت بقولك «ما هو «أي أشيروا إليه حتى أراه فليس هو اليوم مرئيا لخلقه ومدركا لهم فنريكه"(27).
المبحث الثاني: مقصد التكليف في التربية الاعتقادية
إن أهم ما يميز العقيدة الإسلامية بعدها التكليفي، لكن قبل بسط البعد التكليفي للعقيدة الإسلامية (المطلب الثاني)، لا بد من الوقوف عند مقصد التكليف في الشريعة الإسلامية عموما (المطلب الأول).
المطلب الأول: مقصد التكليف في الشريعة الإسلامية
إن الشارع لم يضع الشريعة إلا للتكليف بمقتضاها، ومعناه أن " المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا.."(28)
ومعنى ذلك أن الله تعالى وضع للإنسان قواعد وقوانين الغاية منها تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك بها، وهذا معنى قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء الذي ذكره الشاطبي أي أن القصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه تفصيلا له، هو وضع قواعد وقوانين تحقق سعادة الإنسان في الدارين لمن تمسك بها، ولذلك طلب الشارع من العبد الدخول تحت هذا النظام والانقياد له لا لهواه، ذلك أن إتباع الهوى لا يؤدي إلى حفظ المصالح التي أقرها الشرع، فقد " علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في إتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، والذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرةّ.
وإذا كان كذلك، لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم، إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم، فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار.. فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق، وهوى باعث على مقتضى الأمر والنهي، فبالعرض لا بالأصل، وأما سائر الأقسام- وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف- فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره..(29)
ورغم أن مقصود الشارع هو تحرير المكلف من داعي هواه، وما في ذلك من مشقة على النفس البشرية التي تميل بطبعها لإتباع أهوائها " فالتكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك، فالأوامر والنواهي، مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه.."(30).
رغم ذلك فإن هذا لا يعني بأن الشارع لم يأخذ بعين الاعتبار تفاوت قدرات المكلفين واختلاف طبائعهم، فتظهر مراعاته لكل ذلك من خلال تنويعه للتكاليف على عدة اعتبارات:
-
فقسمها باعتبار الملزم بها إلى(31):
-
تكاليف عينية وهي الواجبة على كل مكلف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا، وبحفظ نفسه قياما بضروريات حياته، وبحفظ عقله حفظا لمورود الخطاب من ربه..
-
وتكاليف كفائية من حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها..
وظاهر أن الشرع في تقسيمه للتكاليف إلى عينية وكفائية راعى قدرة المكلف فما قدر عليه بنفسه جعله واجبا عينيا في حقه، وما لم يكون مقدورا له إلا بغيره جعله تكليفا كفائيا، "فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله، فضلا عن أن يقوم بقبيلة، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض، فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة، حتى قام الملك في الأرض"(32).
وأيضا مما يدل على أخذ الشارع بعين الاعتبار مقدورات الخلق وطبائعهم جعله التكاليف الأصلية الضرورية متوقفة في كمالها على تكاليف تابعة للأصلية ومكملة لها، وهي تلك التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نسل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلات وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه..
بالتالي فإن المقصود من التكاليف - مع ما فيها من مشقة - المصلحة لا المشقة، كما أن ما فيها من مشقة فإنها مشقة مقدور عليها وإلا رفع التكليف، لذلك فإن الشاطبي عندما تحدث عن قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها انطلق في المسألة الأولى مما عده مسلمة، فقال: " ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا.."(33).
وقد وضع الشاطبي قاعدتين أساسيتين في النظر إلى التكاليف الشرعية:
-
الأولى: عدم التكليف بما لا يطاق، وقد عد الشاطبي هذا المبدأ مما لا يحتاج إلى بيان لأن الأصوليين قد تكلفوا به وحسموا الأمر فيه، وقد بنى الشاطبي على هذه القاعدة مجموعة من الفروع والنتائج، منها أنه " إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه.."(34)
فإذا أمر الشارع المؤمن بالتحابب – مثلا- فإن المقصود ما يؤدي إلى الحب من أسباب سابقة، أو مقارنة ولاحقة، تقويه وترسخه، وليس المقصود بالتكاليف حصول الحب ذاته، فإنه خارج عن قدرة الناس، وهكذا كل ما كان من هذا القبيل..
ويدخل ضمن هذا المعنى كل الأوصاف التي تماثل الأوصاف التي طبع عليها الإنسان سواء أكانت ظاهرة ومحسوسة أم باطنة وخفية مثل العجلة والغضب وهذا لا يثبت إلا ببرهان ودليل يدل على أنه طبع لا كسب..(35)
-
الثانية: المشقة غير مقصودة شرعا، وقد عمل الشاطبي على التأسيس لهذه القاعدة من خلال تأكيده على أنه إذا كان التكليف بما لا يطاق ممتنع شرعا بشكل مسلم به، فإن التكليف بما فيه مشقة ممكن وهذا ثابت في الشرائع السماوية السابقة، وبدأ بتحديد مفهوم المشقة، فحملها في اللغة العربية على التعب، أما في الاصطلاح فقد حصر معناها في أربعة أوجه، وهي:
-
تطلق المشقة على مالا يطاق؛
-
ما يكون مقدورا عليه لكنه خارج عن الأعمال العادية، لما يترتب عنه من تشويش على النفس؛
-
المشقة المقدور عليها، وما تسببه من تعب للنفس يوازي ما تسببه الأعمال العادية، غير أنها تكاليف زائدة على ما جرت به العادة مما تقتضيه الحياة الدنيا من أعمال؛
-
والأخير ما يلزم من إخراج المكلف عن هوى نفسه، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق..(36)
وقد بنى الشاطبي على هذا التأسيس مجموعة من النتائج، أهمها:
-
أن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق الإعنات..؛
-
أن المشقة العادية الموجودة في التكاليف هي مشقة عادية تشبه ما تتطلبه الأعمال العادية في الحياة الدنيا من مشقة، ومع ذلك فإن هذه المشقة ليست مقصودة للشارع في نفسها، وإنما من جهة ما فيها من المصالح العائد على المكلف؛
-
مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكاليف، وإن كانت شاقة في مجرى العادات، لأنها تناقض ما وضعت له الشريعة من إخراج المكلف من إتباع هواه حتى يكون عبدا لله؛
-
المشقة الخارجة عن المعتاد التي يحصل منها فساد ديني أو دنيوي، فالشارع يقصد رفعها على الجملة؛
-
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على طريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال..(37)
وهكذا يظهر أن المقصود من التكليف ليس المشقة وإنما تحقيق مصالح المكلف في الدنيا والآخرة، وقد عبر ابن تيمية عن ذلك بقوله: " العمل لايمدح ولا يذم لمجرد كونه لذة، بل إنما يمدح ما كان لله أطوع وللعبد أنفع، سواء كان فيه لذة أو مشقة، فرب لذيذ طاعة ومنفعة، ورب مشق هو طاعة ومنفعة، ورب لذيذ أو مشق صار منهيا عنه."(38) فكأنه قرر أن علة التكاليف الشرعية هي مصالح العباد و ليست المشقة أو اللذة، ومصلحة العباد تكون في طاعة الله ، وفيما يعود بالنفع عليهم سواء أكان دنيويا أم أخرويا، هذا ما أكده الشاطبي بقوله: " وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا".(39)
المطلب الثاني: مقصد التكليف في أحكام العقيدة
لقد سبق أن قدمت أن مقصود الشريعة الإسلامية - سواء من خلال أحكامها العقدية أو العملية - التكليف العملي الناشئ عن الفهم الواضح لمعنى الألوهية وفق قدرات الإنسان و الفهم الدقيق للغاية من الخلق.
وبناء على هذا المقصد التشريعي فإن العقيدة لا يكتمل معناها إلا إذا تم الربط بين جانبها العلمي وبعدها العملي، أو كما قال حسن حنفي: "الحقيقة أن التوحيد قد يكون علما وقد يكون عملا. وعلم التوحيد هو الأساس النظري للعمل"(40).
فحسن حنفي يشير في النص أعلاه إلى أن التوحيد علم وعمل، وكلام حنفي قريب من مقاصد الشارع كما حددها الشاطبي، فالعقيدة علم يهدف إلى إفهام المكلف معنى الألوهية الصحيح، ليكون إطارا نظريا للتكليف العملي..
ولعل هذا ما أراده شارح العقيدة الطحاوية عندما قسم التوحيد الذي دعت إليه الرسل إلى قسمين علمي وعملي فقال "...ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، وليس كمثله شيء في ذلك كله
وتوحيد العبادة هو المقصود العملي من التوحيد، بل هو الغاية التي بعث الله تعالى من أجلها كل الرسل قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] "(41)..
فدور الأنبياء هو دعوة الناس إلى عبادة الله تعالى باعتبارها الغاية من خلق البشرية، أو كما قال ابن تيمية "الغاية المحبوبة لله والمرضية له، التي خلق الخلق لها كما قال تعالى{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56] "(42).
إذا مقصود الأحكام العقدية، هو أن يعلم المكلف، أنه داخل تحت تكليف الله تعالى، فيخرج من داع هواه "حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا"(43)
ومتى تحقق هذا المعنى، كان تمكن العقيدة من القلب سببا في تحقق مقام العبودية الاختيارية
والإرادية لله تعالى وهذا هو المطلوب لا العبودية الاضطرارية، لأن هذه الثانية يشترك فيها المؤمن والكافر، "فالشرع جاء بالتعبد- أي العبودية الاختيارية - وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام"(44).
وهذا الكلام يعني أن الإنسان بكل ما فيه يصبح متوجها إلى الله تعالى ذاهلا عن غيره متحرر من هوى نفسه، فأفعاله وأقواله خاضعة لله تعالى ليس كرها فقط، فذلك أمر يشترك في الموحد والملحد "فجميع المخلوقين عباد الله من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدره وكلماته التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاءوا وما شاءوا إن لم يشاء لم يكن، كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[ آل عمران: 83] "(45).
هكذا يتبين أن التوحيد المقصود هو الذي يثمر العبادة الخالصة لله تعالى المقترنة بغاية المحبة والذل... وهنا يثير ابن تيمية قضية في غاية الأهمية وهي أن المحبة لله تعالى تستلزم طاعته، والمحبة أكيد تحتاج إلى معرفته، لأنه كما سبق وأن أشرت فإن التوحيد مبني على المعرفة والعلم قال تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19].
والنتيجة أن المعرفة الحقيقية بالله تعالى والعلم بحقيقة توحيده ينبغي أن يثمر إفراده بالعبودية، فالمشركون يقرون بربوبية الله تعلى ولكنهم لا يدخلون في المعنى الحقيقي للتوحيد {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9].
بل إن إبليس معترف بحقيقة وجود الله وهو مقر بيوم البعث{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، [ الحجر: 36 ]. ولكن ذلك لم يدخله في زمرة الموحدين.
" فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته وطاعة أمره وأمر رسله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله تعالى وأهل المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان شرا من أهل الكفر والإلحاد. فالعبد هو الذي يكون عابدا لله لا يعبد إلا إياه فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه"(46).
الخاتمة:
خلاصة القول إن العقيدة في التصور الإسلامي هو عقيدة علمية وتوحيد عملي بحيث تجمع بين العلم اليقيني بوحدانية الله تعالى والانقياد التام والمخلص له النابع من غاية المحبة وهو الذي عبر عنه بعضهم " التوحيد هو الخروج عن جميعك بشرط استيفاء ما عليك وأن لا يعود عليك ما يقطعك عنه"(47). بمعنى أن يصبح الإنسان خاضع في كل أوصافه وتصرفاته لله تعالى منقطعا عن نزعاته الأرضية، مجتهدا في أداء حق الله ومع كل اجتهاده يرى دائما تقصيره في حقه تعالى.
وبهذا المعنى جاء القرآن الكريم فالعقيدة ليس مجرد نظريات جوفاء، ولا مجالا للجدالات العقيمة، وإنما هو منهج تربوي عملي "يقوم على التعرف على الله والتعريف به، تربية وتزكية، لتحصيل الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، عبادة لله الواحد القهار، وذلك من خلال استغلال المقاصد التعبدية، والأهداف التربوية للأسماء الحسنى والصفات العلى، وليس بالجمود على استظهار الحدود والتعريفات لمفاهيم الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، على وزن فصول المناطقة ورسومهم، فذلك منهج عقيم لم يزد الأمة إلا خبالا، وإنما باستثمار ذلك عقيدة تربوية، تملأ القلب علما وورعا، وتنتج خلقا قرآنيا في النفس والمجتمع. والبناء للتوحيد هو الكفيل بتكوين الشخصية المسلمة، الجامعة لصفتي (القوة والأمانة)، اللتين بهما يكون الإنسان المسلم فاعلا في التاريخ أو لا يكون"(48).
وهكذا فإن صاحب العقيدة الصافية والسليمة يدرك أن الأخلاق والمصالح العامة هي المؤطرة لكل سكنات وحركات المجتمع الإسلامي، على اعتبار أن هذه الأخلاق ليست مقصودة لذاتها، ولكن لأن "الروح الأخلاقية طاقة فعالة تدفع الناس إلى التسابق إلى أعمال الخير في المجالات المختلفة"(49).
وذلك هو الكفيل بخلق مجتمع سعيد تسوده "روح الأخوة الإنسانية لا فرق ولا تفريق في المعاملات... وتسوده أيضا الوحدة والقوة والوعي الكامل بوحدته من حيث ترابط المصالح المادية والمعنوية والإنسانية لدرجة أن كل فرد فيه ينظر إلى انه عضو متصل بجسمالمجتمع"(50).
إذا فالتربية العقدية الصحيحة التي ينبغي أن تقدم إلى الصبي في أول نشوئه ليحفظها حفظا ثم لا تزال تكشف له في كبره شيئا فشيئا(51)، هي تلك التي تأخذ بمقاصد الشارع في تحقيق الإفهام المنسجم مع فطرة الإنسان وقدراته العقلية، ولا تغرق في المعاني والحدود إلا في حدود ما يحقق الفهم ويثمر العمل، بحيث تكون مفاهيم العقيدة واضحة وعميقة في نفس المكلف لتسيطر على كل ما سواها، فتصبح كل أعماله الظاهرة والباطنة منضبطة بهذه القناعات العقدية، وبذلك ثمر العقيدة التوحيد لا الخلاف، واليقين لا الظن، والعمل لا الجدال.
وبذلك انتهت الدراسة بالخلاصات التالية:
-
مقصود الله تعالى من أحكام العقيدة بناء التصور الصحيح المتمركز حول التوحيد، وتوجيه سلوك المسلم؛
-
أحكام العقيدة جاءت علىقدر ما يفهم المكلفون يستوي في ذلك بليدهم وثاقب الفهم؛
-
مقصد الشارع من العقيدة هو تحقيق العبودية بمختلف أوجهها.
وسجلت التوصيات التالية:
-
تحرير العقيدة من المقاربة الكلامية الجدلية، وربطها بمقاصد الشريعة؛
-
جعل المقاصد إطارا منهجيا للدراسات العقدية؛
-
ربط مباحث العقيدة بالتكليف من حيث التصور والعمل.
قائمة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم
-
ابن تيمية، العبودية، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1401هـ/1981م.
-
ابن تيمية، تقي الدين. الاستقامة، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة محمد بن سعود، المدينة المنورة، ط.1، 1403هـ.
-
الإسماعيل، عبد الكافي. الفطرة وقيمة العمل في الإسلام، دعوة الحق السنة الثامنة – العدد 94 – العام 1410هـ/1989م.
-
الأنصاري، فريد. الفطرية، دار السلام القاهرة، الطبعة الأولى 14030ه-2009م.
-
الإيجي، لعضد الله. المواقف في علم الكلام، عالم الكتب بيروت.
-
الباقلاني، أبو بكر. تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل، . مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1407هـ/1987م.
-
بالجن، مقداد. دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإنسانية، عالم الكتب السعودية، الطبعة الأولى 1996م.
-
البغدادي، عبد القاهر. أصول الدين، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1401هـ/1981م.
-
حنفي، حسن. من العقيدة إلى الثورة، المركز الثقافي الغربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1988م.
-
روسو، جون جاك. دين الفطرة، نقله إلى العربية عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، الطبعة الأولى، 2012م.
-
الريسوني، أحمد. نظرية المقاصد عند الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1416هـ/1995م.
-
الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم. الموافقات، ضبط نصه وعلق عليه أبو عبيدة مشهور، دار ابن عفان، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
-
طه، عبد الرحمان. في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2000.
-
العثيمين، صالح، شرح العقيدة الطحاوية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى (1419هـ/1998م).
-
الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى (1406هـ/1986م.
-
الكلابادي، أبو بكر. التعرف لمذهب أهل التصوف، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م.
-
نخبة من العلماء، التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الثانية 1430هـ/2009م.
1) الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم. الموافقات، ضبط نصه وعلق عليه أبو عبيدة مشهور، ط 1 دار ابن عفان، المملكة العربية السعودية، 1417هـ/ 1997م، ج 2، ص141.
2) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص7، 8.
3) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص101.
4)المصدر السابق، ص101.
5) - ليس في كلام الله 'بهام ولا خفاء..
6) المصدر السابق، ص105.
7) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص107. (الهامش).
8) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص109.
9) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص126.
10) الشاطبي، ج 2، ص127- 151.
11) الشاطبي، ج 2، ص138.
12) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص140.
13- نفسه، ج2، ص141- 143.
14) نفسه، ج 2، ص.151.
15) الريسوني، أحمد، نظرية المقاصد عند الشاطبي، الرباط، ط1: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1995م، ص149.
16) الشاطبي، الموافقات، ج 1، ص141.
17) طه، عبد الرحمان. في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ط2: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص147.
18) الشاطبي، ج 2، ص141.
19) البغدادي، عبد القاهر، أصول الدين، ط 2: بيروت، لبنان، 1401هـ/1981م، ص210.
20) الإيجي، لعضد الله. المواقف في علم الكلام، بدون طبعة، عالم الكتب بيروت، ص28.
21) الشاطبي، الموافقات. ج 2، ص141.
22() المصدر السابق، ج2، ص74.
23) الإسماعيل، عبد الكافي. الفطرة وقيمة العمل في الإسلام، دعوة الحق السنة الثامنة – العدد 94 – العام 1410هـ/1989م، ص20.
24) روسو، جون جاك. دين الفطرة، نقله إلى العربية عبد الله العروي، ط1: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، 2012م، ص18.
25) نخبة من العلماء، التفسير الميسر، ط2: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1430هـ/2009م، ص. 884.
26) التفسير الميسر، ص323.
27() الباقلاني، أبو بكر. تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل، ط1: مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان، 1407هـ/1987م، ص300.
28) الشاطبي، ج 2، ص289.
29) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص292-293.
30) الشاطبي، ج 2، ص294.
31) الشاطبي، الموافقات، 300-301
32) الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص301.
33) الشاطبي، ج 2، ص171.
34) نفسه، ج 2، ص171.
35) الشاطبي، ج 2، ص178.
36) نفسه، ج 2، ص202-209.
37) الشاطبي، ج2، ص210- 279.
38) ابن تيمية، تقي الدين. الاستقامة، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة محمد بن سعود، ط.1: المدينة المنورة، 1403هـ، ج1، ص340.
39) الشاطبي، ج 2، ص9.
40) حنفي، حسن. من العقيدة إلى الثورة، ط1: المركز الثقافي الغربي، بيروت، لبنان، 1988م، ص62.
41)العثيمين، صالح، شرح العقيدة الطحاوية، ط 1: مؤسسة الرسالة، (1419هـ/1998م)، ص38.
42) ابن تيمية، العبودية، ، ط 1: دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، 1401هـ/1981م، ص4.
43) الموافقات، ج 2، 144.
44) الموافقات، ج1، 45.
45) ابن تيمية، العبودية، ص7.
46) العبودية، ص8.
47) الكلابادي، أبو بكر. التعرف لمذهب أهل التصوف، ط 1: دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، 1413هـ/1993م، ص153.
48) الأنصاري، فريد، الفطرية، ط 1: دار السلام القاهرة، 14030ه-2009م، ص169.
49) بالجن، مقداد. دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإنسانية، ط 1: عالم الكتب السعودية، 1996م، ص70.
50) المرجع نفسه، ص69-68.
51) الغزالي، أبوحامد. إحياءعلوم الدين، ط1: دارالكتب العلمية، بيروت لبنان، (1406هـ/1986م.1/113.
Youssef LOUKILI || The objectives of belief between understanding and commandement||IbnKhaldoun Journal for Studies and Research || Volume 2 || Issue 6|| Pages 49 - 69. |
0 |
Article Title | Authors | Vol Info | Year |
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Volume 2 Issue 6 | 2022 | ||
Article Title | Authors | Vol Info | Year |